كثيرا ما أتوقف أمام إبداع وفكر المخرج الكبير جعفر بناهي، أشعر أنه على الشاشة كما خارجها، صاحب سينما تلهم مشاهديها وشهادات أكثر إلهاما تتسق مع تلك الصورة التي يقدمها التي تتمسك بالحلم والأمل وسط موج اليأس، وتنير لنا خطأ عدم الاستسلام لواقع. عندما يتحدث عن نفسه تكمن دروس الحياة لنا وللمخرجين الجدد أيضا. توقفت عند شهادة المخرج المتوج حديثا ب"السعفة الذهبية" لمهرجان "كان السينمائي"، كانت السينما مقدسة بالنسبة لي أنا وأقراني.. لم يكن هناك أي نتاج لهذا الاختيار، لهذا المسار الذي رسمناه لأنفسنا، بعد أول فيلمين، تدرك أن هذا هو مسارك في الحياة، وهذا هو شغفك، ولا شيء يستطيع إيقافك، هذا ما شعرت به حقًا طوال مسيرتي المهنية. اقرأ أيضا: البوستر الرسمي لفيلم «عائشة لا تستطيع الطيران» ضمن الأفضل بجوائز لوسيول أنه شغف "بناهي" الحقيقي منذ البدايات، وأفلامه الأولى التي إلتفت إليها العالم ووجد بها سينما مختلفة وقصص تبحر إنسانية. يقول "بناهي": "لم أكن أعرف إلى أين أتجه وماذا يحدث لي؟، خلال سنوات دراستي الجامعية، كنت طالبًا مجتهدًا لا يهدأ، أردتُ أن أبذل قصارى جهدي لأتعلم قدر الإمكان، وكنتُ أتنقل بين جلسات التصوير، محاولًا تعلم المزيد، ولأثبت لأساتذتي أنني جدير بما يُعلّمونني إياه، حتى عندما بدأتُ بإخراج أول فيلم روائي طويل لي، كان كل ما يشغل بالي هو كيف لا أخذل أساتذتي، وكيف أثبت لهم أنني أفهم ما علموني إياه، وأنني جيد بما يكفي لهم، لم أكن أفكر في نفسي، بل كنتُ كطالبٍ يريد أن يُظهر لمعلميه أنه تعلم جيدًا وأدى عمله على أكمل وجه". ويضيف: "نعم، صنعتُ بعض الأفلام الوثائقية في بداية مسيرتي المهنية، فقد كانت بمثابة تدريب جيد لي، لم تكن جميعها مرتبطة بالحرب، لم يكن لذلك علاقة بالحرب حقًا، ولكن كان ذلك خلال تلك الفترة من حياتي، وأعتقد أن ما تعلمته حقًا من الأفلام الوثائقية هو الإضطرار إلى التكيف مع الظروف المحيطة بك، لأنك لا تملك أدنى فكرة عما سيحدث، وعليك أن تلتقط ما يتكشف أمامك، مادة فيلمك، دون أي تحضير، وعليك أن تتفاعل حقًا وتكون قادرًا على استخدام ما يمنحك إياه الواقع، وكان ذلك مفيدًا للغاية بالنسبة لي بعد ذلك في جميع أعمالي السينمائية". ويستكمل قائلا: "نعم، لا سبيل لمنعك من صناعة الأفلام، عليك فقط إيجاد طرق مختلفة لسرد القصص، بالطبع، لم يكن من الممكن إنتاج فيلم مثل (تاكسي) قبل 10 سنوات، لأنه تقنيًا لم يكن ممكنًا، لكن هذا كان الحل الذي وجدته في تلك اللحظة". "الأمر نفسه الآن، هو نفسه في كل مكان.. إذا كنتَ متأكدًا من أن هذا ما تريد فعله، متأكدًا من كيفية التعبير عن نفسك، وأن الطريقة التي ترى بها نفسك على هذه الأرض هي كصانع أفلام، فستجد سبيلك، وإذا كانت السينما حقًا ما هو مقدس بالنسبة لك، وما يُضفي معنى على حياتك، فلن يستطيع أي نظام، أو رقابة إيقافك". قام جعفر بناهي بصناعة فيلمه الأخير سرا، رغم الإفراج عنه، لكنه تعود على ذلك في باقي أفلامه منذ عام 2010، وكانت النتيجة أن أبهر العالم من جديد ب"مجرد حادث بسيط"، حبكة الفيلم مستوحاة مباشرةً من تجارب "بناهي" في السجن، ويروي قصة معارض مُفرج عنه، ظانًا أنه يتعرف على أحد جلاديه في السجن، فينطلق للإنتقام، لكنه سرعان ما يبدأ بالتساؤل عما إذا كان المزيد من العنف هو السبيل الأمثل لتحقيق العدالة. وكان السؤال هو "كيف أثرت تجربته في السجن على هذا الفيلم؟"، يجيب "بناهي" قائلا: "قبل دخولي السجن، وقبل أن أتعرف على الأشخاص الذين إلتقيتهم هناك، وأستمع إلى قصصهم وخلفياتهم، كانت القضايا التي تناولتها في أفلامي مختلفة تمامًا، قضاء الوقت مع هؤلاء الأشخاص في السجن غيّر رؤيتي كمخرج تغييرًا جذريًا، أتذكر يوم إطلاق سراحي.. خرجت من السجن، وكان أصدقائي وعائلتي هناك لإستقبالي، لكن كانت لدي مشاعر متضاربة، لم أكن أعرف إن كان عليّ أن أكون سعيدًا، كيف لي أن أترك ورائي كل هؤلاء الأشخاص الذين ما زالوا هناك ومعزولين عنهم؟".. ويضيف: "كان هناك شعورٌ غامضٌ للغاية شعرتُ به في تلك اللحظة، وظللتُ أشعر به بعد ذلك، بقي جزءٌ مني داخل ذلك السجن مع هؤلاء الناس، انفتح شيءٌ جديدٌ معهم، ولم أستطع تركه خلفي والعودة إلى الحياة التي عشتها قبل السجن، في هذا السياق تحديدًا، مع هذا الإلهام الجديد، ومع هذا الإلتزام الجديد الذي شعرتُ به في السجن، وُلدتُ فكرة هذه القصة، مصدر إلهامها، هذه الأفكار المتناثرة التي وجدتُها في السجن كانت دائمًا معي". "في كل مرة تخطر ببالك فكرة أو مصدر إلهام، تُولّد هذه الفكرة متطلباتها الخاصة، من حيث الإنتاج، والموقع، والطموح الفني للفيلم، يعتمد الأمر في الواقع على موضوع الفيلم، على سبيل المثال، كان فيلم (لا دببة) أكثر شخصية وانطوائية، لذا تطلب نوعًا مختلفًا من الإخراج، بينما هنا، وبسبب هذه القصة، اضطررتُ أيضًا إلى تعديل نوع الإنتاج الذي يحتاجه. هكذا هي الحال دائمًا، عليك التكيف مع متطلبات القصة وليس العكس". "جميع أنحاء العالم أضطروا لمغادرة وطنهم والتأقلم مع مجتمعات أخرى، وتمكّن بعضهم من الإبداع في أماكن أخرى وإنتاج أفلام مهمة، أفلام تُشاهد وتُحتفى بها.. في الواقع، خضتُ هذه التجربة لأرى معنى صناعة الأفلام لا الحديث عنها، ولابد لي من القول إنني استمتعتُ بها حقًا، ربما علينا أن نُنشئ اتحادًا للمخرجين من جميع أنحاء العالم لمطالبة حكوماتهم بمنعهم من الحديث عن أفلامهم، فكما تعلمون، بمجرد إنتاج فيلم، يبقى الفيلم موجودًا، فلا يهم ما تقولونه عنه، الفيلم قائم بذاته، إذا كانت هناك مشاكل أو إشكاليات في الفيلم، فلا مجال لحلها". يصنع "بناهي" سينما تمزج بين الواقع والخيال، ولهذا يظهر دائما في أفلامه بنفسه مثل "تاكسي" و"3 وجوه" و"لا دببة".