للمرة الأولي.. حوارات نادرة لعمالقة الفكر والأدب والسياسة والفن علي صفحات «روزاليوسف» قبل أن تقرأ.. لم تجد «روزاليوسف» من هدية تناسب ولاء قرائها لهذه المطبوعة، سوي نشر سلسلة من اللقاءات والحوارات النادرة التي لم تنشر من قبل مع كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، أجراها الكاتب والإعلامي العربي الدكتور نجم عبدالكريم في فترات مختلفة علي مدي أربعة عقود. الحلقة الثالثة عشرة
صلاح أبوسيف يواصل شهادته: الصهاينة استغلوا السينما الأمريكية لتشويه الحضارات الإنسانية قبل أن أكون واحداً من طلبته في المعهد العالي للسينما، كنت قد تعرفت عليه، وشاهدته في الاستديوهات، وهو يقوم باخراج أعماله السينمائية، كان صلاح أبوسيف يعد من أكثر المخرجين أهمية، ومن أكثرهم هدوءاً أثناء عمله .. ففي الوقت الذي كان فيه يوسف شاهين يثور، ويتلفظ بكلمات غير لائقة داخل الاستوديو، نجد أن صلاح أبو سيف كثيراً ما يعتريه الحياء والخجل، في مخاطبته للعاملين معه في الاستوديو . أما عما تركه من آثار فنية، فهي تُعدُّ بحقٍ من أكثر الأعمال السينمائية ملامسةً للواقع المصري، حتي أطلق عليه النقاد لقب (مخرج الواقعية). ... عندما التقيته، انتابتني الحيرة ! فالرجل قليل الكلام، واجاباته مختصرة جداً، ولكنني لم أتورع لتبديد حيرتي من التوجه اليه بهذا السؤال في لقائي معه: بمناسبة نيازي مصطفي.. كثيراً ما نراك تذكره باعتباره أحد أساتذتك، مع أنه لم يكن مخرجاً مبدعاً؟! إنني أعتبر نيازي واحداً من السينمائيين المميزين في صناعة الحيل السينمائية «sspecial effects« ثم إنه درس السينما والتصوير في ألمانيا وأنا تتلمذت علي يديه عندما كان رئيساً لقسم المونتاج في استوديو مصر في أوائل الأربعينيات، والمونتاج كما تعرف هو أهم عنصر في السينما، لأن المخرج الذي لا يعرف المونتاج، لا يمكن أن يكون مخرجاً جيداً، والمونتاج هو الذي علّمني الاخراج.. فنيازي كان من أحسن الأساتذة. لاحظت أن فيلم القاهرة (30) كان بالأسود والأبيض، ما عدا مشاهد القصر الملكي، فقد تم تصويرها بالألوان؟ للتأكيد أن المجتمع الفقير كان يعيش بالأبيض والأسود، وللتأكيد كذلك أن المجتمع الارستقراطي كانت حياته مزخرفة بالألوان، ولإظهار البون الشاسع بين الفقراء والأثرياء. هل نستطيع القول أن هناك مدرسة سينمائية يتزعمها صلاح أبوسيف؟.. يعني أن مدرسة الفريد هيتشكوك تميز فيها بأسلوب خاص به، وكذلك فيلليني، واكيرا كيراساوا، كانت لكل منهم مدرسته، فهل هناك ملامح لخصوصية مدرسة صلاح أبوسيف السينمائية..؟! لأنني من خلال أفلامك المتنوعة، التاريخية، والموسيقية، والواقعية، لا أستطيع أن أحدد ملامح مدرسة خاصة بك، كما يحاول يوسف شاهين أن يؤسس لنفسه أسلوباً سينمائياً خاصاً به..؟! - المسألة ليست بهذا الشكل، وإنما ترتبط عندي بنوعية الفيلم، أو ماذا يقول هذا الفيلم، علي سبيل المثال، هناك مواضيع مهمة جداً، أجد نفسي لا أستطيع القيام بها بنفس الجدية، ولكني أتجه بها نحو الكوميديا، مثل فيلم (البداية) الذي كان عبارة عن فانتازيا كوميدية، فيه مشهد ينتقد التليفزيون، ونحن نعيش في الصحراء، ولا يوجد شيء اسمه تليفزيون أبداً، فجعلت من جميل راتب أن يكون قاضياً في محكمة، وفي نفس الوقت هو وكيل النيابة، ومحام أيضاً، والمسألة كلها كانت عبارة عن انتقاد للتليفزيون بشكل فانتازيا، أما في بداية ونهاية، فالأمر كان مختلفاً وكذلك في شباب امرأة، ورصيف نمرة (5). يعني نستطيع القول: تعددت الأساليب، وخط صلاح أبوسيف في التعبير يسير علي نسق سينمائي خاص به؟ - بالضبط.. إذن أين نضع اخراجك لأفلام فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ؟ - الوسادة الخالية جاءني بمصادفات عجيبة، لأن رمسيس نجيب منتج الفيلم، عرض الرواية علي أكثر من مخرج ممن عُرفوا باخراج الأفلام الرومانتيكية فرفضوه لأنه لم يعجبهم، مع أن القصة تتكلم عن الحب الأول، فلما اعطاني الرواية، تفاعلت معها، وكانت النتيجة أن الوسادة الخالية يعتبر واحداً من الأفلام الناجحة لعبدالحليم حافظ. كيف يصف صلاح أبوسيف صناعة السينما التي يعتبرها البعض من أبرز انجازات القرنين الماضيين؟ - لو اعتبرنا السينما مثل الآدمي، لكان الأخوان لومير في فرنسا، وأديسون في أمريكا هم الذين صنعوا هذا الآدمي، ثم يأتي دور الألمان، فيما اخترعوه من أدوات ومكائن، لكي يجعلوا لهذا الآدمي ما يشبه المخ أو العقل.. أما الروس فقد جعلوا صاحب هذا المخ أو العقل كيف يفكر.. وجاء شارلي شابلن ليبعث به الروح وساهم الايطاليون بجعله آدمياً له عائلة، لكن الامريكان حوّلوه بالدرجة الأولي الي شيء مادي، فقد نزعوا عنه الآدمية والعقل، والروح، والفكر، والعائلة، وجعلوه خادماً لشيء واحد اسمه الدولار. من المنتصر في نهاية هذا المطاف؟ - بكل أسف.. الدولار. ولكن لا تنسي أن امريكا قدمت أعمالاً سينمائية خالدة؟ - ولا تنس أيضاً أن الصهاينة قد استغلوها ليقوموا بتشويه أعرق الحضارات الإنسانية، ويقدموا أنفسهم كشعب الله المختار. هذا يدخلنا في موضوع آخر.. - السينما الأمريكية تقوم بإنتاج (500) فيلم تقريباً في السنة، لا تجد فيها أكثر من عشرة أفلام جيدة. ألم يحاول الاستاذ صلاح أبوسيف أن يخرج أعمالاً تليفزيونية؟! - لم أحاول.. ولن أحاول. لماذا؟! - لأن المسألة كلها وسيلة تعبير، وأنا أُحسن التعبير في السينما. هل عكس صلاح أبو سيف تجاربه الذاتية في أفلامه؟! - نعم .. حدث ذلك، فأنا مثلاً في فيلم (هذا هو الحب) جعلت من ماري منيب وهي تسعي لخطوبة فتاة لابنها، تقترب من الفتاة وتقبلها لكي تتأكد من رائحتها، وتشد شعرها لكي تتاكد أنه ليس شعراً مستعاراً، ثم تعطيها شيئاً صلباً لتأكله لكي تتأكد من قوة أسنانها، ثم قامت بفحص عينيها، ولم تترك لا صغيرة ولا كبيرة في جسمها الا وتفحصتها بطريقة تفعلها معظم الحموات في مصر.. وهذه الحكاية قد استقيتها حرفياً من والدتي. من أكثر النجوم شغباً ممن تعاملت معهم؟! - أنا لا أتعامل مع أي نجم مشاغب.. وكذلك هناك نجوم ممن لا يشاغبون أيضاً لم أتعامل معهم. يعني لو اقتضت الضرورة الفنية الاستعانة بواحد منهم، فماذا تفعل؟! - لا ألجأ اليهم أبداً، لأنني أعلم أن الجو الذي أعمل فيه هو جو عائلي، ومعظم من أختارهم للعمل معي، أعرف أنهم يعملون بحب ورغبة في النجاح.. لذلك لا أتعامل مع النجوم المغمورين والمشاغبين. كثيراً ما نجدك تعمد الي إظهار مشاهد فاقعة لإبراز عيوب المجتمع، خاصةً في فيلم (الافوكاتو)؟ - أنا لم أخترع تلك المشاهد لأنها موجودة في المجتمع، ولا اعتبرها فاقعة، إنما هي انعكاس للواقع. عندما يذكر صلاح أبوسيف، دائماً يتبادر الي الأذهان ذكر كمال سليم، مخرج فيلم العزيمة الذي يعتبر أول فيلم واقعي في تاريخ السينما كما صنفه الناقد الفرنسي (جورج سادول)، فما هي علاقتك ب«كمال سليم»؟! - في سنة (1936) كان كمال سليم قد خرج من استوديو مصر، فلم ألتقه عندما دخلت إلي الاستوديو في ذاك التاريخ، ولما بدأت بالعمل كنت أُبدي بعض الآراء، فكان يقال لي: هذا رأي كمال سليم، مع أنني لم أكن أعرفه.. فكل كلمة أقولها سرعان ما يقال لي: إنك تتكلم بلسان كمال سليم.. فضقت ذرعاً من جراء ذلك، وذهبت لمقابلة كمال سليم، وعندما التقيته لأول مرة قلت له: أنا صلاح أبوسيف، اشتغل في استوديو مصر، وكل شيء أقوله في الاستوديو، يقولون لي: هذا رأي كمال سليم.. وأصبحنا بعد هذا اللقاء صديقين، الي أن جاءت الفرصة لنشترك معاً في «العزيمة»، الذي لم يكن اسمه «العزيمة»، إنما كان (في الحارة)، وكان دوري في هذا الفيلم مساوياً تماماً لدور كمال سليم حيث شاركته في المونتاج والسيناريو والإخراج. لقد تعرضت أفلامك الأخيرة إلي هجوم شديد من النقاد خاصةً فيلم : (حمام الملاطيلي) وفيلم (السيد كاف)؟ - أقول لك حكاية فيلم (الزوجة الثانية) يعتبر من أهم وأحسن الأفلام المصرية، ويعرض بعض الأحيان في التليفزيون، واسمع من الناس اعجاباً منقطع النظير لهذا الفيلم.. وفي إحدي المرات عُرض (الزوجة الثانية) في التليفزيون، وكتب أحدهم عنه نقداً، أقسم بالله جعلني من شدة الانفعال أقرر ترك العمل في السينما نهائياً!! فعنوان المقال كان علي الشكل التالي: (أيتها الواقعية كم من جريمة تُرتكب باسمك).. الله.. ؟! هل من المعقول أن أكرس كل حياتي كي تكون النتيجة بهذا الشكل؟! أين صلاح أبو سيف من العالمية؟! - سنة (1949) أخرجت فيلماً اسمه (الصقر) في ايطاليا، ولم اكرر المحاولة، وفي لندن اتفقت معي إحدي الشركات لاخراج فيلم تدور أحداثه في إثيوبيا، ولكن لأسباب سياسية رفضت تصوير الفيلم في أراضيها، فاخترنا السودان، فإن السودانيين كانت لهم شروط تعجيزية، وجاء اقتراح أن يتم التصوير في البرتغال، فقدمت لهم قائمة تتضمن حاجتي إلي ألفي شخص عسكري أسود اللون لإدارة المعارك .. لكن الجهة المنتجة لم تتمكن من توفير هذا العدد، فتعثر المشروع! شكراً .. أستاذ صلاح..