لم تكن الأوضاع الاجتماعية وحدها هى المتهم الرئيسي وراء انتشار التحرش الجنسي، فتلك الظاهرة صنعتها الأزمات على مدار سنوات عديدة، لكنها ظهرت بوضوح في الآونة الأخيرة نتيجة لغياب الأمن في الشارع المصري، مما سهل على الشباب استغلال الفوضى والزحام لارتكاب جرائمهم الوحشية التي لا تشكل انتهاكاً للمرأة فقط بل لحريتها أيضاً، حتى أصبحت المرأة المصرية، وكأنها فريسة في عيون الرجال، الأمر الذي يستلزم تدخل حكومي سريع، لمعالجة ما وصل إليه المجتمع من تدنٍ قبل انفلات الأوضاع وصعوبة السيطرة عليها. كشفت دراسة أجراها خبراء في مجال الحقوق الفردية بالأمم المتحدة مؤخراً أن مصر هى أسوأ مكان تعيش فيه المرأة مقارنة بالدول العربية، وأشار التقرير إلى أن هناك نحو 99.3٪ من النساء والبنات في مصر تعرضن للتحرش، وعند النظر الى هذا التقرير نلاحظ أن هناك خطورة كبيرة يعاني منها المجتمع، فالأوضاع الداخلية تحتاج لمجهودات طويلة من أجل نبذ العنف والقضاء عليه هذا ما أكده الخبراء الذين ناقشوا الدوافع التي أدت للتحرش. انهيار الأخلاق الدكتور أحمد يحيى، استاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة قناة السويس، يؤكد أن التحرش عرض لمرض اجتماعي يتعلق بالتنشئة الاجتماعية، وأساليب التربية في المجتمع، وكلما ضعفت هذه الأساليب، وانهارت منظومة القيم السائدة التي تستمد مقوماتها من الدين والقانون، ويتعلمها الانسان منذ طفولته، انتشرت تلك الظاهرة، ومن المؤسف أن مصر مرت بحالة مرض اجتماعي أثر في كل مقومات البناء من أخلاق وسلوك وآداب وقيم، وظهر ذلك واضحاً في الاعلام، وفي الفهم الخاطئ لمفهوم الحرية التي ينادي بها البعض، ويقول: مع الأسف لم يأخذ من الحرية سوى السب والقذف والتحرش وبات واضحاً في المجتمع، رغبة بعض الرجال أو الشباب في اثبات الرجولة الزائفة، أو اهانة الانثى، أو تنفيذ مخطط سياسي، وثقافي للاساءة للمجتمع المصري، أو لتخويف الانثى من المشاركة الاجتماعية بعدما حققت نجاحاً باهراً في السنوات الأخيرة، ويطالب الدكتور أحمد يحيى بعدم علاج تلك الظاهرة بالأمن فقط، فالأمر اخلاقي ثقافي قيمي وقانوني بالدرجة الأولى، فشدة العقاب مطلوبة خلال الفترة القادمة على المتحرش، ولابد أن يكون العقاب رادعاً، مع ضرورة اهتمام دور العبادة، ومعاهد العلم، والأسرة في محاسبة أبنائها وعقابهم حتى نقلل من ظاهرة التحرش، فمن لا يرتدع بالقرآن يرتدع بالسلطان، وهنا تكون مسئولية الحكومة فلا يجب التهاون في مثل هذه الأمور، لأنه من الخطأ أن ترجع ظاهرة التحرش إلى حالات الفقر والبطالة والفراغ الذي يعيشه الشباب، فهى دعوات زائفة لتبرير التحرش وليس لها علاقة بتلك الدعوات الزائفة. تحرش شامل الدكتورة ابتهال رشاد، مستشار التنمية البشرية وحقوق الانسان، ترى أن ظاهرة التحرش موجودة بالفعل في المجتمع المصري، لكن نظراً لحساسية الأمر فانه نادراً ما تبلغ الفتاة عن تعرضها للتحرش الجنسي، حتى لا يصفها البعض بالفجور، خاصة وأننا نعيش في مجتمع يلعب فيه الدين دوراً كبيراً في حياتنا، واللافت للنظر أن المجتمع يعاني من التحرش في كافة مجالات الحياة، فالمرأة تتعرض يومياً للتحرش سواء في العمل أو في وسائل المواصلات أو الجامعات والأماكن المزدحمة، ومع الأسف لا توجد لدينا مراكز متخصصة لرعاية المتحرش بهم، واعادة تأهيلهم، كما لا توجد مراكز للاستماع، فنحن نعاني قصوراً في الاهتمام بالتحرش الجنسي رغم أنه منذ ما يقرب من 6 سنوات تقريباً، تقدم المركز المصري لحقوق المرأة بمشروع قانون لحماية المرأة ولكنه مازال حبيس الأدراج حتى الآن، هذا فضلاً عما وقعته مصر من مواثيق دولية ترفض العنف ضد المرأة، والتحرش هو أحد اشكال العنف الخفي في المجتمع، مثل الزواج المبكر، وجميعها مشاكل موجودة بالفعل، لذا لابد أن يتم انشاء مراكز متخصصة لاعادة التأهيل وأن يكون المتدرب قادراً على عمل بحوث ميدانية في كافة المجالات، وفي كل مؤسسات الدولة لتحديد حجم الظاهرة، وتحجيمها قبل أن تتفشى في المجتمع مع العمل على علاجها. دوافع اقتصادية الدكتور حمدي عبد العظيم، رئيس اكاديمية السادات للعلوم الادارية سابقاً، يقول: هناك دوافع اقتصادية وراء انتشار ظاهرة التحرش في المجتمع، وتتمثل تلك الدوافع في الفقر والبطالة، وعدم وجود امكانيات لتكوين أسرة، مما يجعل الشباب في حالة ضياع فيبحثون عن وسيلة غير مشروعة لاشباع رغباتهم فيستغلون الزحام والفوضى للتحرش بالفتيات والسيدات. والملاحظ هنا أن أغلب الشباب الذين يقدمون على التحرش أغلبهم يعيش في العشوائيات التي ينشأ فيها الشباب على تعاطي المخدرات وأقراص الترامادول المخدرة، التي تجعلهم غائبين عن الوعي تماماً، هذا فضلاً عن تفشي ظاهرة البطالة، وعدم وجود دخل ثابت أو اسكان له خصوصية، فالعشوائيات تفتقر للخصوصية، حيث تتكدس أفراد الأسرة في غرفة واحدة، فينعدم الحياء عند الأولاد، وتصبح لديهم رغبة في التقليد، فالسلوكيات السلبية تجعلهم يتجهون للجريمة من أجل اشباع رغباتهم، ومن ناحية أخري نجد أن هؤلاء الشباب ناقمون على المجتمع ولديهم رغبة في الانتقام، فينتهزوا الفرصة لأخذ أي شىء بطرق غير مشروعة، ومن هنا بات على الحكومة أن تتخذ الاجراءات الحاسمة التي من شأنها القضاء على ظاهرة التحرش التي ازدادت مؤخراً من خلال مكافحة الجريمة، وتغليظ العقوبة على الشخص المتحرش، بحيث تصل العقوبة الى السجن المؤبد والاعدام في الاغتصاب كما عليها أن توفر فرص عمل للشباب لكي يستطيع الشاب أن يكون أسرة صغيرة، ويكون لديه دخل شهري ثابت، حتى لا يتحول الشباب الى قنابل موقوتة تدمر المجتمع. الكاتبة الصحفية فريدة النقاش ترى أن حادث التحرش الأخير الذي وقع في التحرش مدبر لافساد احتفالات المصريين بفوز السيسي، لكن الظاهرة في عمومها ترجع الى عدة اسباب اهمها: عجز الشباب عن اقامة أسرة نتيجة للازمة الاقتصادية العنيفة التي تشهدها البلاد، وبالتالي يتوالد لدى الشباب شعور بالاحباط العام تجاه وضعهم، ومصيرهم الغامض في المجتمع الذي لا يوفر لهم فرص حقيقية، ليعيشوا حياتهم الطبيعية، فضلاً عن انتشار الثقافة المبتذلة المملوءة بالايحاءات الرخيصة، وهذا يجعل العلاقات الاجتماعية مشوهة وهناك نظرة الشباب للمرأة باعتبارها فريسة، وليست رفيعة في الحياة، وكلها عوامل اساسية أدت لبروز هذه الظاهرة في حياتنا، اضافة الى الانهيار السلوكي العام في المجتمع بأكمله بسبب الأزمات المركبة التي يعاني منها المجتمع، وعلينا أن نضع في الاعتبار أن هناك مجتمعات عديدة تعاني من انتشار ظاهرة التحرش، فهى ظاهرة سيئة وتحتاج لحلول سريعة.