في تلك السنوات البعيدة، كنت طفلاً صغيراً أستقبل الحياة بأحلام بلا نهاية، وكانت الصورة الذهنية عندي للعالم وردية بلا حدود، كانت الحياة مجرد لهو ولعب ومقالب فقط، كنت أجد متعة كبري في إلقاء الطوب علي بلح النخل الأصفر والأحمر فيتساقط بعد عشر محاولات علي الأقل، كنا نتسابق نحن الأصدقاء والأقارب فيمن يستطيع إسقاط أكبر كمية من البلح الجميل، وكانت متعتنا الأخري هي لعب الكرة الشراب في الحارة، واستمر الحال علي ذلك المنوال، حتي جاءت كارثة 5 يونية 1967، قبلها بأيام كنت فرحاً بإجازة العام الدراسي الأول والتقيت ضابط الجيش «كمال» جارنا في الشارع الذي طالبني بأدب بمراعاة حرمة الجيران أثناء لعب الكرة، واعتذرت، فودع بعدها جيرانه للذهاب إلي الجبهة في عربة جيب عسكرية، ولم نكن نعلم وقتها أنها رحلة الوداع، حيث توالت بعدها الأحداث سريعاً، ضربة عسكرية مفاجئة في سيناء وهجوم بطائرات الفانتوم الصفراء ذات النجمة السداسية الخضراء- نجمة داود- علي الصعيد ومساندة أمريكية بطائرات الفانتوم أيضا قامت بالهجوم علي مدن الدلتا وثبت فيما بعد أنها انطلقت من قاعدة أمريكية في ليبيا كان القذافي ضابطاً بها مما دفعه للقيام بثورة الفاتح من سبتمبر 1969 فيما بعد، كان الهجوم كاسحاً ومدمراً، والأسوأ أن الجيش المصري في تلك الحرب المؤامرة لم يحارب أصلاً، لقد ذهب للتظاهر بالجلابيب ولم يكن عبدالناصر ينوي الهجوم علي إسرائيل أبداً، بعد أن تلقي رسائل من أمريكا والاتحاد السوفيتي وقتها باستيعاب الضربة الأولي والرد في الثانية. وفي الذكري ال47 لهزيمة يونية 1967 تبدو المقارنة مطلوبة بين تلك الحقبة الصعبة في التاريخ المصري والعربي وبين الحقبة الحالية بعد إجراء الانتخابات الرئاسية وفوز السيسي بمنصب الرئيس بنسبة 94٪ تقريبا، من حيث الشبه والاختلاف بين الحدثين ويمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية: المؤامرة: هي القاسم المشترك بين يونية 1967 ويونية 2014، في الأولي كانت المؤامرة أمريكية- إسرائيلية أساساً مع تأييد بريطاني وفرنسي لضرب المشروع الناصري وفكرة القومية العربية وإنهاء حلم وطن واحد من الخليج الثائر إلي المحيط الهاد، وقد أعدت إسرائيل خطتها لغزو سيناء منذ 1956 بعد فشل العدوان الثلاثي، ومن عجائب القدر أن سيناريو 1967 يكاد يكون حرفياً لما جري في 1956 أي أننا لم نستوعب الدرس أبداً، والمثير أيضا أن خطة إسرائيل في حرب يونية كانت تقتضي التوقف عند المضايق، وترك بقية سيناء مكشوفة، ولكن انسحاب المشير عبدالحكيم عامر المفاجئ وبدون خطة أدي إلي تدمير القوات المصرية بعد تدمير المطارات والطائرات العسكرية علي الأرض، مما أغري موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها بالتوغل بقواته في سيناء حتي استقر علي الضفة الشرقية لقناة السويس، وعندما ذهب إلي ديفيد بن جوريون- الأب الروحي لإسرائيل وأول رئيس وزراء لها في مزرعته في سد بوكر لم يفرح بن جوريون بإنجاز القوات الإسرائيلية، وقال ل«ديان»: «لقد كان هذا خطأ فادحاً سوف تدفع ثمنه فيما بعد، لأن وجود القوات الإسرائيلية علي الضفة الشرقية للقناة سوف يثير استفزاز المصريين بشكل يومي، وهذا سيدفعهم إلي عبور القناة يوما ما». أما بريطانيا وفرنسا فقد كانتا تريدان الثأر من عبدالناصر لدعمه حركات الوطن في العالم الثالث مما أدي إلي استقلال الكثير من الدول وأفول نجم الامبراطورتين وصعود أمريكا والاتحاد السوفيتي، أما المؤامرة الحالية فهي تتلخص في مشروع الشرق الأوسط الكبير بإثارة النزاعات والحروب داخل دوله مما يؤدي لتقسيمها بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وقد نجح المخطط في إشعال الحروب الأهلية في العراق وسوريا واليمن وليبيا، ولكنه توقف في مصر بعد تصدي السيسي لمؤامرة الإخوان في تقسيم الوطن لصالح المخططات الأمريكية بانحيازه إلي الارادة الشعبية في 30 يونية 2013، وعزل مرسي واقصاء الإخوان عن الحكم. الزعامة: هناك قاسم مشترك بين عبدالناصر والسيسي في الزعامة والكاريزما، وقد حصل عبدالناصر علي تلك المكانة لقيامه بثورة 1952، وإجبار الملك فاروق علي التنازل عن العرش وانحيازه للفقراء وتبني مطالب القوي العاملة وتدشين مشروع السد العالي وتمصير قناة السويس وانهاء الاحتلال البريطاني، ورغم أن السيسي يشير إلي أن صورة عبدالناصر تحتل قلوب المصريين حتي الآن، إلا أن الكثير من الخبراء يؤكدون انه يسير علي خطي عبدالناصر خصوصا فيما يتعلق بانحيازه إلي الفقراء والحفاظ علي الكرامة الوطنية وإحياء الدور الاقليمي لمصر في المنطقة بإعلانه تأسيس قوات الانتشار السريع لمحاربة الإرهاب في الداخل والخارج ومساندة مصر لأي دولة عربية تتعرض لتهديد خارجي وأن الأمر لا يعدو كونه «مسافة السكة» فقط. الاقتصاد: يبدو وضع الاقتصاد المصري متناقضاً بين الفترتين، في الفترة الأولي- 1967- كان الاقتصاد المصري متفوقاً وحقق الريادة بتحقيق نسبة نمو اقتصادي وصلت إلي 7٪ حسب تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة وتفوق علي كوريا الجنوبية، في حين أن الاقتصاد المصري الآن منهك تماماً بعد ثورتين 2011- 2013 حتي تراجع الاحتياطي النقدي إلي 17 مليار دولار معظمها مساعدات عربية خصوصا من السعودية والإمارات، كما اغلقت 5000 مصنع أبوابها بسبب التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانفلات الأمني ناهيك عن ارتفاع البطالة وانخفاض السياحة وتراجع الاستثمارات العربية والأجنبية. الإخوانية والصهيونية: مصر واجهت مؤامرات إسرائيل في 1967 التي تبدو مشروعا استيطانيا صهيونيا وفي 2014 تواجه مخططات الإخوان لإحراق الوطن وإشعال الحرب الأهلية، ومن المثير أن الإخوانية والصهيونية وجهان لعملة واحدة، حيث يحلم الإخوان باحياء حلم الخلافة الإسلامية، في حين تحلم إسرائيل بدولة إسرائيل الكبري من النيل إلي الفرات.