اتجهت الدولة المصرية خلال حقبة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم اتجاهًا اقتصاديًا اشتراكيًا بامتياز حيث أبقت الدولة على مساحة ضئيلة للقطاع الخاص واحتكرت هي باقي السوق دون منازع أو منافس، فقد قامت الدولة بتأميم ومصادرة الأملاك الخاصة للمواطنين المصريين ولم يتغير هذا المشهد إلا مع نهاية الثمانينات حين بدت ملامح الضعف على معدلات نمو الاقتصاد المصري، وبالتحديد في العام 1987 توقفت مصر عن دفع ديونها الخارجية ودخلت مع البنك الدولي في برنامج تثبيت مدته 18 شهراً وأعقبته جدولة ديونها ولم يحقق ذلك نتائج إيجابية وتوقفت مصر مرة ثانية عن سداد ديونها في العام 1991، مما أدى إلى دخول مصر في اتفاقية مع البنك الدولى مدتها ثلاث سنوات تمر بمرحلتين مرحلة سياسات التثبيت والأخرى برنامج سياسات التكييف الهيكلي، كان ذلك بداية برنامج الخصخصة الذى بدأ فى العام 1991 إلا ان حكومة الدكتور «عبيد» وقتها حولت هذا النظام الذى كان أهم أهدافه انعاش الاقتصاد إلى مذبحة للتخلص من الشركات التى فشلت الدولة فى انقاذها من التعثر. وأوضح بعض المختصين أن سياسة الخصخصة يتم تطبيقها عندما تخسر الشركات التابعة للدولة وتكون إدارتها عبئا عليها، وتصبح الشركات التابعة لإدارة الدولة فاشلة وخاسرة باستمرار وهو غالبا ما تلجأ اليه الحكومات للتخلص من فشلها، وهو ما دفع الدكتورة عالية المهدي الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية و بمعاونة باحثين آخرين إلي إجراء بحث علي عينة من الشركات التي تمت خصخصتها شملت 27 شركة من إجمالي 165 شركة شملتها عمليات الخصخصة، وقالت ان نتائج البحث انتهت إلي ان تجربة البيع لاتحاد العمال المساهمين لا ينصح بها بسبب قلة الخبرة وعدم قدرتهم علي إجراء عمليات التطوير وضخ رءوس الأموال لعمليات الاحلال والتجديد وان ثلث الشركات التي تمت خصخصتها قللت عدد العاملين وشردتهم وأن الجهاز المركزي للمحاسبات أعلن عن ضياع نحو عشرين مليار جنيه من أموال الخصخصة، دون وجود مستندات تكشف بنود صرفها... موقف «الوفد» حزب الوفد أول من رحب بعملية الخصخصة منذ البداية، مؤكدا فى تقرير له أن التخصيصية هي جوهر الإصلاح الاقتصادي ومحوره الأساسي، بل إن القطاع العام بحجمه المستفحل وفروعه المتنوعة وأنشطته الممتدة إلى معظم الميادين الإنتاجية والخدمية يشكل قوة ضاغطة على أنشطة القطاع الخاص؛ ويهدد في نفس الوقت نسبة كبيرة من موارد المجتمع بسبب سوء تنظيمه وفساد إدارته وجنوحه إلى الدعم والاحتكار، ولما كان العامل الأيديولوجي قد لعب دورا كبيرا في فرض القطاع العام، وكان هذا العامل يشكل في نفس الوقت حافزا قويا على دعم السلطة السياسية المطلقة بالسلطة الاقتصادية من خلال القطاع العام، ويتيح بالتالي تركيز السلطتين معا في قبضة واحدة. ولكن رغم الموقف المبدئي بالحزب المؤيد للتخصيصية والرافض للقطاع العام فإن الحزب وضع العديد من التحفظات على خطة الحكومة في الخصخصة أولها عدم تغير المناخ السياسي وإشراك المسئولين الذين خربوا وأفسدوا القطاع العام في عملية بيعه، ومن الاعتراضات الوفدية أيضا السرية التي تفرضها الحكومة على تحركاتها وخططها للبيع والجهات الموكل إليها عملية التقييم وعدم خضوع الإجراءات الحكومية للرقابة البرلمانية والشعبية، ورغم الموقف المبدئي للوفد المؤيد للقطاع الخاص فإن الحزب قسم مشروعات القطاع العام الحالية إلى مشروعات يمكن بيعها وأخرى يستحيل بيعها وبالتالي ضرورة تصفيتها، ومشروعات سوف تظل في ملكية الدولة وبالتالي ينبغي تنظيمها وترشيدها. ويرى الوفد ألا تزيد نسبة اكتتاب غير المصريين في المشروعات المبيعة علي 49% في المشروع الواحد حتى تظل مقاليد الثروة القومية في أيد مصرية، كما يرى الحزب تخصيص نسبة من الأسهم للعاملين تسد قيمتها على أقساط وكذلك إنشاء صندوق لدعم العاملين في الشركات المبيعة ضد إخطار البطالة. المعاش المبكر كمال عباس المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية يؤكد ان «الخصخصة» أثرت سلبا على حقوق العمال لفشلها فى تحقيق أهداف النظام وتداعياتها للحفاظ على حقوقهم حيث تم بمقتضاها التفريط فى عدد كبير من المصانع كان يجب إصلاحها دون بيعها ومثال على ذلك شركات الاسمنت الأكثر تأثرا بنظام الخصخصة حيث تم تشريد آلاف العمال دون رحمة بالرغم من انها ثروة قومية تحافظ على سوق العقارات، مضيفا ان هناك أكثر من 1700 عامل أغلبهم فى سن العمل دون سن الأربعين تحولوا إلى معاش مبكر وارتفعت نسبة البطالة حتى أصبح الأب والابن معا يقطنان فى المنزل ويبحثان عن عمل، وقال «عباس» ان العمال ايضا فقدوا المزايا العينية التى كانوا يحصلون عليها بسبب تدهور اوضاع الشركة، مضيفا انه منذ منتصف الثمانينات حتى أوائل التسعينات ارتفع معدل الدين الخارجي إلى 52 مليار دولار وعجزت الحكومة عن السداد وزادت نسبة البطالة، مما دفع الدولة للجوء إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لبدء عملية إصلاح شامل وعلاج المشاكل الاقتصادية مقابل تطبيق حزمة من سياسات المؤسستين، وقامت لجان فنية ببيع العديد من المؤسسات الصناعية والتجارية كخطوة أولى لتنفيذ مشروع الخصخصة، وفي عام 1994 تم بيع مصنع النصر لتصنيع المراجل البخارية لشركة كندية ولكنها قامت ببيعه مرة أخرى لجهة مصرية قامت بتصفية المصنع واحتفظت بملكية الأرض، وتشير إحصاءات إلى المكاسب المالية الكبيرة التي حققتها هذه الشركات في ظل استخدامها للغاز المبيع لها بأسعار مدعمة، واستخدمت بعض الشركات التي اشترت المصانع سياسات أضرت بالعمال وحقوقهم وأثرت على حياتهم الاجتماعية، مثل سياسة المعاش المبكر في حالة مصانع الغزل والنسيج في كفر الدوار. خسائر فادحة ومن جهة أخرى كشف تقرير حقوقي عن عمليات فساد صاحبت عملية بيع شركات القطاع العام في إطار برنامج الخصخصة، حيث لوحظ أن الرقم الذي حدده كبار الخبراء لعملية البيع يبلغ 320 مليار جنيه إجمالي بيع 314 شركة، بينما كانت حصيلة بيع 326 شركة هي 32 مليار جنيه فقط. وأشارت المعلومات التي جاءت في تقرير لمركز الأرض لحقوق الإنسان إلي أن إجمالي ما جري بيعه من شركات في القطاع العام هو 314 شركة وحتي عام 2006 كانت 236 شركة، وكانت حصيلة البيع 32 مليارا و737 مليون جنيه، حيث تمت تصفية 33 شركة وبيع 48 شركة للمستثمرين وبيع أصول 36 شركة إلي جانب بيع وحدات إنتاجية وتأجير 25 شركة، وأكد التقرير أن العمال هم الضحية الأولي للخصخصة التي بدأت الحكومة تعيد النظر فيها دون التحقيق مع الفاسدين والذين حصلوا علي عمولات مقابل التفريط في المال العام، وذكر أنه تم تشريد ما يقرب من مليون ونصف المليون عامل كانوا يعملون بالقطاع العام ولم يتبق منهم إلا 400 ألف الآن! وقال د. إبراهيم العيسوي الخبير الاقتصادي ان السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام الحاكم فشلت في إنجاز المهمة الرئيسية المطروحة علي مجتمعنا وشعبنا، ألا وهي الخروج من التخلف والتبعية، وتحقيق التنمية الشاملة والاستقلال الوطني، مضيفا انه من النتائج السلبية التي أسفر عنها تطبيق سياسات فتح الاقتصاد ودمجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي والانحياز للرأسمالية المصرية علي حساب مصالح جماهير العمال والفلاحين وشرائح واسعة من الطبقة الوسطي، من خلال الانخفاض الكبير الذي طرأ علي الأجور الحقيقية، مضيفا أن الخصخصة لا تمثل إضافة لجهود التنمية ، فهي مجرد نقل أصل من الأصول من الملك العام إلي الملك الخاص دونما زيادة في قيمة هذا الأصل ووجود قطاع عام قوي ضروري للتنمية السريعة مثلما هو ضروري للتخطيط الجيد الذي هو أحد متطلبات التنمية الجادة والسريعة، فالقطاع الخاص أضعف من أن ينهض بمهام التنمية وان التنمية في بلاد نامية مثل بلادنا لا يمكن أن تترك للسوق ودروس التاريخ تفيد بأنه لا تنمية دون دور نشط للدولة.