قررت الحكومة استئناف برنامج الخصخصة الذى توقف منذ عدة شهور نتيجة للأزمة المالية العالمية التى أدت لتباطؤ حركة الاستثمار والبيع والشراء فى العالم كله، وهو البرنامج الذى أثار جدلا منذ بداية الحديث عنه فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، وعلى مدى فترة تنفيذه الممتدة حتى الآن. ويعد تقييم ما تم فى مجال نقل شركات وأصول القطاع العام إلى مستثمرين من القطاع الخاص، وأثره على أوضاع الاقتصاد أمرا ضروريا للحكم على جدوى وأهمية الاستمرار فى تنفيذه. وقد شهد برنامج الخصخصة دفعة كبيرة مع مجىء حكومة أحمد نظيف، حيث قفز عدد عملياتها من 28 عملية بقيمة 5634 مليون جنيه فى سنة توليها الوزارة، 2004/2005، إلى 65 عملية خصخصة فى العام التالى بقيمة تصل إلى 14.612 مليار جنيه، حسب بيانات وزارة الاستثمار، بزيادة 159% فى حصيلة البيع فى عام واحد. وتمثل هذه الأرقام أضعاف ما تم بيعه فى السنوات الأولى، فحصيلة البيع فى الفترة 1992 1994 لم تتجاوز 418 مليون جنيه، تزايدت تدريجيا فى السنوات ووصلت إلى نحو 4.7 مليار فى 1996/ 1997 مع بيع حصص فى الشرقية للدخان وعدد من شركات الأسمنت والمطاحن، وحققت ارتفاعا مماثلا لتبلغ 4.1 مليار فى 1999/2000 مع بيع مزيد من شركات الأسمنت، قبل أن تنخفض بشدة فى السنوات التالية بتأثير من عوامل محلية وعالية هدأت من حركة البيع. وبلغت حصيلة البيع خلال سنوات حكومة نظيف (2004 2008) حوالى 39.3 مليار جنيه، حتى نهاية 2008، طبقا لأحدث البيانات المتاحة. وتباطأت حركة برنامج الخصخصة مع الأزمة المالية العالمية، لتنخفض إلى 8 عمليات فى العام المالى 2008/2009 بقيمة 1.5 مليار جنيه. ورغم ذلك تؤكد تصريحات الحكومة أنها لم تبع سوى 6 شركات منذ مجيئها للحكم، فى إشارة إلى بيع الشركات بالكامل، خاصة أنه قد عاد عدد من الشركات إلى قطاع الأعمال بعد بيعها نتيجة الإخلال بالشروط من جانب المستثمرين، إلا أن الحكومة تغفل فى تصريحاتها الحديث عن الحصص العامة فى الشركات المشتركة، التى يملك قطاع الأعمال حصصا منها بجانب القطاع الخاص، حيث مثل هذا النوع جزءا كبيرا من عائدات الخصخصة خلال الفترة من 2004 إلى 2008، بلغت نسبته نحو 45%. وقد بدأت الشركات العامة فى السنوات الأخيرة التحول من الخسارة إلى الربح، نتيجة الاهتمام بدرجة أكبر بإعادة هيكلتها، حيث حققت الشركات التابعة لقطاع الأعمال العام أرباحا بلغت 5.2 مليار جنيه فى 2008/2009، مقابل خسارة بلغت 1.2 مليار فى عام 2002/2003 وحققت 114 شركة من إجمالى الشركات ال153 أرباحا. وجدير بالذكر أن أرباح الشركات تراجعت 0.3 مليار فى العام المالى الماضى مقارنة بالعام السابق له بتأثير من الأزمة العالمية وانعكاساتها التى طالت معظم الشركات العاملة فى السوق المصرية. غياب الاستراتيجية «تمت الخصخصة دون أن تكون هناك استراتيجية واضحة ومعلنة لما يباع، وسبب بيعه، ووجهة استغلال العائد منه»، تبعا لضحى عبد الحميد، أستاذ الاقتصاد التمويلى بالجامعة الأمريكية، والتى تابعت عن قرب وأشرفت على خطط للإصلاح المالى لقطاع الأعمال من خلال عملها السابق فى وزارة المالية. وتقول عبد الحميد إنه لم يحدث توافق حول الخصخصة وتفاصيلها، وهو ما تعتبره عكس ما يجرى فى بلاد العالم، حيث تكون هناك أهداف محددة يجرى النقاش حولها ثم تعرض على البرلمان لتتم صياغتها فى قانون، ويعلن على الملأ جدولا زمنيا لطرح الشركات، يكون المواطن على علم به، «فى هذه الحالة يمكن أن نعرف على أى أساس تتخذ القرارات بالإسراع أو الإبطاء أو حتى وقف برنامج الخصخصة». وينبغى، تبعا لعبدالحميد، أن تتضمن الاستراتيجية أوضاع العمال فى حالات الخصخصة المختلفة، والتعويضات المقدمة لهم إذا تم الاستغناء عنهم. كما يجب أن تتعرض لتأثير نقل ملكية الأصول من القطاع العام إلى الخاص على السوق بشكل عام، وما إذا كانت ستساهم فى تحقيق المزيد من المنافسة أم ستخلق أوضاعا احتكارية. ويذكر أن خصخصة معظم شركات الأسمنت العاملة فى مصر، باستثناء واحدة هى القومية للأسمنت، قد رتبت أوضاعا احتكارية فى هذه السوق أدت لارتفاعات غير مبررة فى الأسعار، حتى إن بعض الشركات صدرت بحقها أحكام غرامة بسبب الممارسات الاحتكارية، مما دفع الدولة للتفكير فى دخول هذا المجال مرة أخرى لتقليل الضغوط الاحتكارية، من خلال مشروع مصنع النهضة للأسمنت الذى بدأت أعمال إنشائه على طريق قنا سفاجا. ويعتبر غياب الحوار المجتمعى حول خطط الدولة، وغياب الشفافية فى طرح المعلومات أمام الجمهور أحد العوامل التى قللت من نجاح سياسات الخصخصة فى مصر، ورغم التحسن فى إتاحة المعلومات فى السنوات الأخيرة إلا أنها مازلت أقل من المطلوب، رغم أن إتاحة المعلومات هو حق للمواطنين، بحسب عبد الحميد، ضاربة المثال ببرنامج الخصخصة من خلال الصكوك الشعبية الذى طرحته الحكومة العام الماضى، والذى أخذ حقه من النقاش العام، «واتضح أن خسائره ستكون أكبر من مكاسبه، لذلك تراجعت عنه الحكومة». ومن الجدير بالذكر أن وزير الاستثمار كان قد نفى خلال الأيام الماضية التراجع عن برنامج الخصخصة من خلال الصكوك الشعبية، الذى يقوم على توزيع أسهم الشركات العامة التابعة لقطاع الأعمال على المواطنين، مؤكدا أنه سيتم تعديل بعض النقاط الخلافية فيه. وتعتبر المعايير التى يتم على أساسها الحكم بالاحتفاظ بأصول الدولة أو بيعها بالفعل غير واضحة، فتظهر ملاحظات الجهاز المركزى للمحاسبات على الحساب الختامى للدولة للعام المالى 2007/2008، أن بعض الهيئات الاقتصادية التابعة للدولة تحتفظ باستثمارات لا تدر عائدا، أو تحقق عائدا منخفضا لا يتناسب مع حجم الأموال المستثمرة فيها، كما هو الحال على سبيل المثال فى إحدى الشركات التى تحتفظ هيئة البريد بحصة فيها، شركة جيرونيل لمعالجة الفواتير ، رغم تسجيلها خسائر بلغت 626.6 مليون جنيه حتى نهاية 2007. فى المقابل، كانت معظم الحصص العامة فى الشركات المشتركة التى تمت خصخصتها خلال نفس العام المالى الماضى فى شركات رابحة، مثل شركة سميراميس للفنادق التى باعت الحكومة حصتها فيها، وتبلغ 29%، علما بأن تلك الشركة حققت 99.38 مليون جنيه صافى ربح فى عام 2007، ويبلغ نصيب المال العام من هذه الأرباح نحو 29.8 مليون جنيه. وكانت أكبر عمليات بيع للحصص العامة فى 2007/2008 من نصيب شركة طلعت مصطفى، التى حققت صافى أرباح يزيد على المليار جنيه فى عام 2007. ومن أشهر القصص فى برنامج الخصخصة، والتى تمثل دليلا على غياب الاستراتيجية الحاكمة لهذا البرنامج، شركة المراجل البخارية التى بيعت عام 1994 بحوالى 17 مليون جنيه ، وكانت الوحيدة فى الشرق الأوسط المنتجة للغلايات البخارية، وأوعية الضغط العالى الخاصة بالمحطات النووية، ومحطات الكهرباء، وشركات البترول، والصناعات الثقيلة، لتتحول فى غضون سنوات قليلة إلى مجرد أراضٍ على النيل تعد لكى تتحول إلى مشروع سياحى بعد أن بيعت أجزاء كبيرة منها، وهى مثال لعدد من الصناعات المهمة التى كانت مملوكة للدولة، وفقدها الاقتصاد المصرى بعد بيعها. كذلك شركة قها للصناعات الغذائية، حيث تم بيعها بالتقسيط على مدى 9 سنوات، ولم يسدد المشترى أقساط الشراء، ولم يدفع أجور العمال التى اضطرت الحكومة لتسديدها بدلا منه، وتحولت الشركة من الربح إلى الخسارة، لتعود فى النهاية للحكومة التى قررت استردادها، متحملة المديونيات التى ترتبت عليها خلال فترة خصخصتها. الاحتكار وسيطرة الأجانب «من المستحيل الحكم على مدى نجاح برنامج الخصخصة من خلال أداء الشركات»، كما يرى هانى توفيق، الذى عمل فى تقييم الشركات العامة وإدارة عدد من الطروحات العامة والخاصة منذ البدايات الأولى للخصخصة وحتى عام 2001، من خلال منصبه السابق كعضو منتدب لبنك استثمار المجموعة المالية هيرمس، مستشار الدولة فى عدد من عمليات الخصخصة. ويوضح توفيق أن ذلك يرجع إلى صعوبة تثبيت المتغيرات الكثيرة المحيطة بالمسألة لنعرف إذا كان نجاح الشركات أو ما لحقها من خسائر يرجع بالفعل للخصخصة، أم لعوامل أخرى مثل تغير أسعار المواد الخام أو الطاقة أو العمالة، «فالمسألة لا ترتبط بالضرورة بنوع الملكية، عامة أم خاصة، ولكن بظروف الشركات والأوضاع المحيطة بها». ويرى توفيق أن مدى استفادة الدولة من هذه العملية هو المقياس الحقيقى لتقييمها، مؤكدا أنه فى هذا الصدد، لم «يندم» على شىء قدر ندمه على مشاركته فى برنامج الخصخصة، «فرغم حسن نوايا القائمين عليه، فإننا جميعا ركزنا على تحقيق أكبر عائد للدولة والبيع بأسعار عادلة، وغفلنا عن حقوق الأجيال القادمة، ووضع ضوابط تمنع الاحتكار». ويوضح الخبير المالى أن كثيرا من الشركات أصبحت مملوكة لمستثمرين أجانب يحولون أرباحها للخارج مقابل استغلال الموارد الطبيعية للبلد والتى تعتبر حقا للأجيال القادمة، التى «لن تجد شيئا بعد أن تم بيع المصانع والبنوك والأراضى والشواطئ». ويضرب توفيق مثلا بالأسمنت الذى بيعت مصانعه العامة فى إطار الخصخصة إلى مستثمرين، أصبحوا يحققون أرباحا احتكارية من منتج تبلغ تكلفته حوالى 150 جنيها فى الطن، ويتم بيعه بأسعار تتراوح بين 500 و600 جنيه، بينما تعد المحاجر التى تقوم عليها تلك المصانع حقا للأجيال القادمة. «الخصخصة يجب أن تتم بنظام الامتيازات محددة المدة، لتعود الموارد لأصحابها مرة أخرى، كما يجب أن تفرض ضرائب مناسبة على المستثمرين، حتى تأتى بفائدة حقيقية للمواطنين»، تبعا لتوفيق الذى يرى أن هناك وسائل عديدة للاستمرار فى الخصخصة مع منع الاحتكار، منها الاحتفاظ بحصص مؤثرة فى الشركات، بحيث تكون الملكية موزعة بنسبة 51% للقطاع الخاص و49% لقطاع الأعمال العام على سبيل المثال. وتشير ورقة بحثية صادرة عن منتدى البحوث الاقتصادية، كتبها محمد عمران، نائب رئيس البورصة المصرية، إلى أن هيكل الملكية الخاصة للشركات التى تم بيعها من قبل الدولة يتجه خلال السنوات العشر التى قامت بدراستها (1995 2005) نحو مزيد من التركز لصالح المستثمرين الأجانب، الذين اشتروا من الدولة بشكل مباشر كمستثمرين رئيسيين فى طرح خاص، أو من خلال الطرح العام عن طريق البورصة. ورغم أن نسبة المؤسسات المحلية هى الأكبر بين المشترين لشركات أو حصص فى شركات عامة، فإن هؤلاء لم يتمكنوا تقريبا من رفع حصصهم فى الشركات على مدى السنوات العشرة، والتى ظلت تدور حول 23%، بينما ضاعف المستثمرون الأجانب نسبتهم خلال نفس الفترة لترتفع من 5.8% إلى 11.7% من ملكية الشركات المبيعة. أما المستثمرون الأفراد فقد ارتفعت نسبتهم من 16% فى بداية الخصخصة إلى 18.5% فى 2005. كيف استفاد الاقتصاد من العوائد؟ تبعا لبيانات وزارة الاستثمار ،توزعت حصيلة البيع خلال السنوات التى مرت بها الخصخصة ليذهب حوالى نصفها لوزارة المالية، بنسبة 47% من الحصيلة، التى استخدمتها فى سداد أعباء الدين العام، وتوزعت النسبة الباقية بين سداد ديون الشركات المباعة لدى البنوك 31%، وصرف أجور ومعاش مبكر للعاملين فيها بنسبة 18%، ودعم الشركات العامة المتعثرة 4%. ورغم ارتفاع حصيلة الخصخصة فإنها لم تستخدم بالشكل المطلوب، كما ترى ضحى عبدالحميد، فمن المفترض «أن تستغل هذه الأموال فى استثمارات تفيد الأجيال القادمة، ولا توجه للاستهلاك»، ولكنها تقول إنه لا يوجد ما يضمن استخدامها بهذا الشكل نتيجة «عدم وجود استراتيجية واضحة». وتشير البيانات الرسمية، الصادرة عن وزارة قطاع الأعمال التى تولت برنامج الخصخصة منذ بدايته، وكذلك التقارير التى تصدرها وزارة الاستثمار التى تولت هذا الملف بعد إلغاء الوزارة الأولى، إلى أن برنامج الخصخصة يستهدف «تحسين كفاءة الوحدات الإنتاجية وتطويرها وتعظيم مساهمتها فى الاقتصاد القومى»، إلا أن الواقع لا يثبت بالضرورة أن هذا الهدف قد تحقق، فبيع الشركات تم بهدف أساسى هو تغطية عجز الموازنة العامة، تبعا لعبدالحميد، ولم يكن من أهداف الدولة تحسين أداء الشركات قبل البيع، رغم أن هذا يرفع من سعر البيع، «وقام كثير من المستثمرين الذين اشتروا تلك الشركات ببيع الأصول من أراضٍ وممتلكات تابعة لها، ثم اتجهوا لتصفية أنشطتها، وهو أمر مشروع بالنسبة للقطاع الخاص الساعى للربح، لكنه خسارة للاقتصاد». ولم تستخدم عوائد البيع فى الاستثمار لتدر عائدا مستقبليا، هو من حق الأجيال القادمة، كما تقول عبدالحميد، ومن جهة أخرى فقد تم تسريح جزء كبير من العمالة، دون توفير فرص عمل بديلة، وحتى الفرص التى يوفرها القطاع الخاص لا تتناسب مع مؤهلات هؤلاء العاملين، وأخيرا فإن المبالغ التى تم صرفها لبعض من تم تسريحهم من العمال، لم تكن كافية لبدء مشروعات خاصة توفر لهم فرص العمل، خاصة مع ما جرى عليها من خصومات، كما غاب التنظيم لأوجه استثمار هذه الأموال بحيث لا تذهب لأغراض استهلاكية قصيرة الأجل. وقد انخفض عدد العاملين بقطاع الأعمال العام من نحو مليون عامل مع بداية البرنامج إلى 373 ألف عامل، تبعا لآخر بيانات لوزارة الاستثمار، بينما تراجع عدد شركات قطاع الأعمال من 314 شركة إلى 153.