«أحنُّ إلى خبزِ أمّى وقهوةِ أمّى ولمسةِ أمّى..» آخر مرة رأيتها كانت فى أكتوبر عام 2006، كانت الساعة قد قاربت على الواحدة أو الثانية بعد الظهر، تلقيت اتصالا من شقيقتى الكبرى ماما عيانة قوى تعال فى الطريق من القاهرة إلى طنطا حاولت أن أتذكر ملامحها ورائحتها، كانت الصور تأتى مشوشة وباهتة، طمئنت نفسى أنها لم تمت، وعندما أصل سوف تحكى لى ماذا فعلت خلال الأيام الماضية، وأداعبها كالعادة ساخرا من والدها العمدة، كانت تفتخر بأن والدها كان عمدة شبرا النونة مركز ايتاى البارود فى محافظة البحيرة أيام الملك وأوائل ثورة الجيش، كانت تحكى لنا عنه بعزة كيف كان قاسيا فى الحق وحليما مع الفقراء، قصصه لم تنقطع عن منزلنا، رنين المحمول أخرجنى من ذاكرتي، أغلقت الجرس وحاولت العودة مرة أخرى للصور والحكايات المخزونة من السنوات الماضية. اسمها لطفية، وكثيرا ما كانوا يخطئون فى كتابته فى الأوراق الرسمية، وفى آخر بطاقة شخصية استخرجناها لها، كتبوا اسمها «لطيفة»، أشقاؤها كانوا ينادونها: «عجورة»، لحبها فى العجور، كما كانوا يسمونها «فوكيه» نسبة للفاكهة، حكى لنا خالى فتحى (أخ لها غير شقيق مات هو الآخر) أنها كانت تأكل طوال النهار من أشجار الفاكهة بالحديقة المحيطة لمنزل والدها، شاهدتها تقف أمام المرآة ونحن حولها صغار، كانت تعتقد أنها الخالق الناطق نجاة الصغيرة، وكلما فتحت السيرة نضحك ونغنى لها: لا تكذبى.. عندما وصلت إلى منزل شقيقتى لم ألتفت للسيدات المتشحات بالسواد، ولم تستقبل أذناى أصوات البكاء، دخلت عليها غرفة النوم كانت مسجاة تحت الغطاء، أغلقت خلفى باب الحجرة، وجلست على الكرسى المجاور للسرير: أزيك يا عجورة أخبارك أيه؟ رفعت عن وجهها الغطاء، حدقت فى وجهها لفترة، لم يعد هو الوجه الذى كنت أراه فى طفولتى وصباي، أصبح شاحبا ونحيلا وداكنا ومترهلا، التجاعيد فى جبهتها وأسفل عينيها وحول أنفها، لا أذكر لون عينيها، فكرت فى أن أرفع جفنها، ربما كان عسليا أو أسود، حاولت أن أستدعى من ذاكرتى مشاهد كانت تنظر فيها لى ربما تبينت لون عينيها، جميع المشاهد التى استدعيتها كانت تتكلم فيها وهى منشغلة فى المطبخ أو تغسل ملابسنا، ترفع غطاء الحلة، تمسح دموعها من البصل، أو وهى تدعك بقوة ياقات القمصان، وضعت يدى على كتفها، طبطبت عليها: مش هتصحى بقي؟، أنا هنا من فترة؟ تعرفى الطريق كان زحمة جدا، طوال الطريق كنت بافتكر أيام زمان، فاكرة لما كنت بدهن وشى أسود وألبس جلبابك الأسود وأخوف إخواتى، كان صراخهم تسمعينه من آخر الدنيا، وفاكرة لما كنا نتلم جنب الراديو علشان نسمع مسلسل خمسة وربع، فاكرة لما سمعنا شفيق نور الدين وهو يأكل الزلابية فى مسلسل المماليك، طلبناها منك واتجمعنا حولك وأنت بتعمليها، تعرفى أنى افتكرت يوم وأنا راجع وش الفجر من أول إجازة من الجيش، فاكرة الأيام دى، كنت كل ما أروح علشان يجندونا يتأجل الموعد، وآخر مرة رحت بدون فلوس ولا ملابس وأخذونا على مرسى مطروح عدل، وضعت يدى على جبهتها باردة جدا: أيه الحكاية أنت مابترديش على ليه؟ طيب هقولك حاجة تضحك، فاكرة فى عيد الأم لما كنا كلنا بنجبلك مناديل بريحة، وفى مرة الريحة كانت وحشة وقعدنا نعطس كلنا. ماما هو أنت صحيح متى؟، أوعى تكونى بتعملى ميتة؟، هاتى إيدك أأومك، هحطلك مخدة ورا ضهرك اسندى عليها. بيقولوا اللى بيموت روحه ما بتطلعش إلا بعد تالت يوم، وأن الميت بيسمع وبيشوف أهله. بقولك إيه كفاية بقى واصحي، أنت زى الفل أهه، أيه يعنى جسمك بارد، ومافيش نفس، بس أنت زى ما أنت... ماما، ماما، أنت متّ بجد؟، مش معقولة إنك مت، هم اللى بيعيطوا بره بيعيطوا عليك، طيب مت ليه؟. يقال إن عمرها عندما ماتت كان 66 سنة، وفى رواية أخرى 63 سنة، لا أحد منا يعرف عمرها على وجه التحديد، وحكوا أن عمرها المثبت فى شهادة الميلاد لم يكن حقيقيا، لم أحتفظ لها بصورة، ربما لأننى أشعر دائما بأننى فى ترحال، على سفر، وربما لأننى قد غادرت كثيرا ومازلت أشعر أنه حان وقت السفر، وربما لأننى أعيش الغربة، لكن الذى أتذكره جيدا أن صورها كانت قليلة. « هرِمتُ، فرُدّى نجومَ الطفولة حتّى أُشارِكْ صغارَ العصافيرِ دربَ الرجوع.. لعشِّ انتظاركْ..»