"الشلل المروري" ليس كله شرًا؛ وليس كله ضررًا؛ بل فيه من الفوائد ما لا يعد ولا يحصى، رغم أنه يبدو للجميع تكدُّسًا وازدحامًا وفوضى، إلا أن البعض وأنا منهم يرون أن فيه مميزات في كلا الاتجاهين ربما تخطئها العين المجردة. قد يبدو للكثيرين، أن الشلل المروري أشبه بلوحة سوريالية عبثية، تشكلها الفوضى والازدحام.. ولكنها بمنظور آخر، قد تمثل "سيمفونية" عزف كلاسيكية، لم تسمعها الآذان التي اعتادت الصخب والضوضاء والإزعاج وعوادم السيارات. التقيتُ صديقًا للتو، وجدته في حال يرثى لها.. سألته: ماذا حلَّ بك، وما هذه الهيئة التي أراكَ عليها.. هل حدث مكروه لك.. هل انهار المنزل الذي تسكنه.. هل نجوتَ من تفجير ما أو سيارة مفخخة من تلك التي تظهر بين حين وآخر؟؟!. أخبرني بأن لا شيء من كل هذا قد حدث، ولكنه عاد بسلامة الله إلى المنزل بعد رحلة طويلة من المعاناة استمرت لأكثر من ثلاث ساعات، في زحام مروري وتكدُّس للسيارات لم يشهد له مثيلًا من قبل!. اعتقدتُ أنه يمازحني بكلامه، وتعجبتُ مما يقوله، فكيف لمسافة لا تتعدى عشرة كيلومترات، يقطعها الإنسان عادة في عشر دقائق، أن يقطعها في كل هذه الفترة الزمنية، فأنا لا أصدق مثل تلك الرواية التي لا يقبلها عقل أو منطق!. أكد لي بأن ما يرويه لا يقبل الشك، بل واتهمني بأنني أتغافل عن الحقيقة وأنكرها، متسائلًا باستغراب: "كيف لا تعرف بهذه الكارثة المستمرة منذ فترة، وأنت بالضرورة تتابع الأخبار باستمرار؛ بحكم عملك؛ بل وتقطع مثل هذه المسافة كل يوم"؟!. أجبته بأنني اعتدتُ الأمر، ولم أعد أعير اهتمامًا لذلك، فالوقت فيه من المتسع ما يكفي للذهاب للعمل والعودة للمنزل والخروج بصحبة الأسرة في نزهة يومية، ثم قضاء الحوائج وغيرها من الأمور، التي يتسع اليوم الواحد لإنجازها. قلتُ له هوِّن عليك يا صديقي، فالشلل المروري له من الفوائد في كلا الاتجاهين، ما يجعلني أتغاضى عن مثل هذه الأمور البسيطة، وأخذتُ أعدِّد له بعض الفوائد والمميزات التي لا يراها، لأنه يرى نصف الكوب الفارغ فقط، ولا ينظر إلى الموضوع من زاوية أخرى أكثر شمولية. أن تقضي وقتًا طويلًا في رحلة بالسيارة أو في مواصلات عامة، يجعلك تشعر بالألفة بين الناس والتكاتف والتآزر والتوحد.. يجعلك تشعر بقيم التعاون والتآخي والمحبة، كما يجعلك تعتاد على الصبر والجلد والتحمل. أن تقضي وقتًا طويلًا؛ لعدة ساعات؛ في رحلة لمسافة قصيرة، فهي تجربة ثرية، يجب أن تحرص على خوضها والاستفادة منها بشتى السبل، حيث يمكنك باتصال هاتفي أن تصل رحمك الذي قطعته، أو تنجز عملك عبر الهاتف، أو تشتري حاجياتك وقضائها عبر الاتصال، كما يمكنك أن تقرأ كتابًا لتتصالح مع القراءة التي هجرتها منذ زمن بعيد. أن تقضي هذه الساعات من دون أن تستفيد منها، فهذا هو عين الخطأ، لأنك لو أردت يمكنك إعادة الترابط الأسري بينك وبين زوجتك وأولادك، فهي فرصة مثالية أن تتجاذبوا أطراف الحديث في أمور حياتكم التي ضاعت في الزحام والانشغال بأعباء الحياة. قد تستفيد من هذه الساعات الطويلة في التأمل، لتكون بداية جادة في محاولاتك المستمرة والفاشلة في الإقلاع عن التدخين نهائيًا، وأن يعتاد أبناؤك الصغار على الصوم، كما يمكنك أن تتعلم إصلاح الأعطال في سيارتك، واكتشاف معالم جديدة في الطريق الذي تقطعه يوميًا دون أن تلحظها. إنها فرصة لكي تقوم زوجتك بممارسة هواياتها المفضلة، في إنهاء بعض المشغولات اليدوية أو تجهيز طعامكم خلال هذه الساعات، كما أنها فرصة قد لا تتكرر في أن يقوم أولادكم بمراجعة شاملة للمناهج الدراسية وتعويض ما فاتهم!. يا صديقي.. الشلل المروري كله فوائد، من حيث لا تدري، والحلول لهذا الموضوع، غاية لم يدركها أحد من قبل، فماذا تستطيع أن تفعله في شوارع ضيقة لا تستوعب حركة السيارات، والتي بدورها انتهت صلاحيتها قبل عقود من الزمن، ولا تؤدي دورها المطلوب إلا في كثافة انبعاث العوادم فقط!.