إذا كانت حوارات أفلاطون الجدلية عن مفهوم العدالة والمواطنة هي التي تشكل الفلسفة في مقابل السياسة، وهي التي عبرت عن آراء سقراط حول دور المثقف والمفكر في تغيير العالم مقابل دور الحكام أو السياسيين الذين عليهم تنفيذ أفكار وأحلام ورؤي الفلاسفة والمفكرين ، فإن ما نعيشه اليوم من جدال وحوارات وطنية وقومية قد تدخل بنا إلي كهف مظلم يسمي السفسطائية أو الكلام المعاد المكرر، لأن أن تكون هناك لجنة للحوار الوطني لتنبثق منها لجان فرعية لمناقشة أحوال الوطن الاقتصادية والسياسية ثم لجنة أخري علي رأسها نائب رئيس الوزراء تسمي الوفاق الوطني لمناقشة الدستور والحقوق والحريات ثم تنبثق وتتفرع منها عدة لجان أخري لوضع تصور مبدئي غير ملزم للجنة التي سوف تشكل يوما ما في ساعة ما في عهد ما لوضع دستور جديد للبلاد بعد انتخابات برلمانية للشوري وللشعب فإن هذا هو الهراء والجدل الفارغ بعينه................ لأن تلك اللجان وشعبها سوف تضع أبحاثاً وأوراقاً لمناقشة موضوعات قُتلت بحثاً في المراكز البحثية والجامعات المصرية والمجالس القومية وغيرها من آلاف الأوراق التي تعرضت لكل مشكلات مصر ومئات من رسائل الماجستير والدكتوراه في القانون والدستور والاقتصاد والاجتماع والسياسة، ومع هذا نحن نحب ونهوي الكلام لأننا أمة الضاد والقول لا الفعل، وخير دليل علي رحلة التوهان أن المجلس العسكري في واد والتحرير في واد والمنصة في واد والمثقفون في واد والشعب الصامت في واد والعالم من حولنا في واد آخر تماما..... حادثة فريدة تثبت لنا أن مصر في حالة توهان ما بين دولة القانون أم الدولة الدينية أم دولة الأخلاق، فقصة أو حادثة المدرس الناظر الذي يعذب الصغار جسديا ويهين آدميتهم ويقتل براءتهم بدعوي التهذيب والإصلاح وبحجة انه يعلم ويوجه شياطين صغار يمتلأون كذباً ولهواً، تلك الحادثة المريعة الصادمة لكل النفوس الإنسانية صدمت المشاعر وروعت المصريين لدرجة أن ذلك المدرس تمت إحالته إلي محكمة الجنايات في سرعة فائقة لكن الكارثة الكبري والتي هي بحق قتل للقانون الإنساني وللقيم الدينية وللناموس الأخلاقي العام هي أن الحكم قد جاء بتغريم ذلك السادي مبلغ مائتي جنيه 200 مصري فقط لاغير مع إيقاف التنفيذ وإطلاق سراحه وفتح المدرسة والحضانة، الأخطر من كل هذا استقبال الأهالي للحكم بالزغاريد المفرحة السعيدة لذلك المجرم الإنساني الذي لو كان في بلد أجنبي لتمت إحالته إلي مستشفي أمراض عقلية ونفسية للكشف عن قواه العقلية وصحته النفسية وتوازنه الإنساني، حتي يثبت كامل أهليته فيحال إلي مصحة للتأهيل وإعادة البث البشري ويمنع تماما من ممارسة مهنة التدريس لدرجة انه في أمريكا تمت معاقبة والدين بحرمانهما من الأبوة والأمومة لطفلة صغيرة كانا يحبسانها في قبو مظلم داخل قفص كلاب كنوع من التأديب والتربية، وعندما أخبر أخوها الشرطة تحول هذان الوالدان إلي المحاكمة وقضيا عقوبة السجن المخفف لاستكمال تربية الأخوة الآخرين، أما الصغيرة فقد تمت إحالتها إلي أسرة أخري لتربيتها وتخلت عن اسم ولقب أبويها، وهي قصة حقيقية بثتها اوبرا وينفري في برنامجها الشهير وكتبت الصحافة عن مأساتها ومعاناتها مقالات عدة وتحولت شيسلي الطفلة العذبة إلي رمز للمعاناة والتشوه الإنساني. فإذا كنا نطبق القانون الدولي وحقوق الإنسان فماذا كان مصير ذلك الرجل الفاقد الآدمية؟ وإذا كنا نعيش في دولة تدعي التدين أو تسمي دولة دينية ذات مرجعية إسلامية كما يحلو للإخوان والسلفيين الحديث فهل يقبل دين الإسلام أن تهان آدمية الصغار وأن يعذبوا ويروعوا وتقتل براءتهم وتغتال طفولتهم بدعوي العلم والتعلم؟! أما إذا كنا دولة ذات خلق عظيم كأخلاق الرسل والنبيين والفلاسفة والحكماء والأولياء فهل كان حال الأهالي هو الزغاريد والتهليل والتكبير فرحاً ببراءة الجاني المخبول الجبار وهل تلك الحادثة وتداعياتها المرعبة كاشفة لحال المجتمع المصري ومدي التشوه الإنساني والسلوك المعوج والخلق المشين الذي أصبح سمة معظم المصريين ما بين منتقم حقود أو متمرد بلطجي أو نفعي مرتشٍ أو سادي جبار أو صامت غاضب أو سلبي متفرج أو مجرد آلة كلام وحوار وكتابة وصراخ إعلامي فارغ أجوف...... إن الدول العظام الكبري حتي ولو كانت في عرف وقاموس الأخوة السلفيين والجماعات الإسلامية هي دول كافرة علمانية لا تطبق الشرائع السماوية، خاصة الشريعة الإسلامية ،فإن هذه الدول لديها نظام قانوني وأعراف أخلاقية تتسامي فوق كل الطقوس والشعائر لأنها في الواقع تطبق دين الله ومكارم الأخلاق والعدل والحق والخير والجمال... لن ينصلح حال المجتمع بلجان الحوار ولا البرلمان ولكن بالقانون والدستور الذي يجب أن يسبق أي قرار أو أي حدث أو أي فعل من قبل المسئولين، فالمجلس العسكري مع الحكومة عليه أن يستمع للشارع وللمثقفين وللأغلبية الصامتة في إصرارها علي أن يكون هناك قانون ملزم للجميع ودستور سريع ولجنة تأسيسية تضع الدستور والقانون الحاكم لدولة مدنية تؤمن بالمواطنة والتعددية وتعلي من القيم والأخلاق ويكون الإيمان الحقيقي هو ما وقر في القلب لا في اللحية أو الجلباب أو اللسان.............. أ.د عزة احمد هيكل [email protected]