واهم من يتصور لمصر مستقبلا يخلو من ممثلي الإسلام السياسي . ومجنون من يتصور أن مصر ستكون آمنة ما لم تسقط الأوثان التي يسجد أمامها الإسلام السياسي منذ أقامها جمال الدين الأفغاني، والتي لم يكن لها أن تقوم وأن تبقى لولا الخواء النظري الذي تعيش فيه جماعة الإخوان منذ نشأتها وإلى اليوم. وسر هذا الخواء أن الأفغاني كان مثاليا مناهضا للاستعمار لكنه كان حركيا لم يترك موروثا نظريا ،رغم ثقافته العصرية والتراثية الواسعة والعميقة. وحسن البنا كان أكثر غموضا لكنه كان مثله حركيا لم يترك موروثا نظريا رغم معرفته الواسعة بالتراث وهي معرفة لم تطورها ثقافة عصرية، فهو رجل جاء من العصور الوسطى إلى القرن العشرين مباشرة، وإن غطى على جهله بالحداثة ببلاغته وبقدراته التنظيمية. أول هذه الأوثان هو «الهندسة الاجتماعية» والمصطلح غريب على «أدبيات» الإخوان لكنه تعبير علمي عن توجه لم تعرفه مصر إلا مع غزوة بونابرت الفاشلة. قبلها كانت مصر تتطور بتفاعلات - قد تصل لدرجة الصراع المسلح - بين مكوناتها المختلفة تنقلها من مرحلة لمرحلة دون تصورات نظرية مسبقة. وبعد فشل الفرنسيين في هندسة مصر سياسيا واجتماعيا بقوة بونابرت نجحوا في ذلك بقوة محمد علي. وكانت السخرة والقمع والتمييز العرقي أساس مشروعه . وهذا يختلف عما تطلع إليه العرابيون وعما حققته ثورة 1919. فهاتان الحركتان تفاعل ثوري معاد للسخرة والقمع والتمييز العرقي، لكنه يحمل مطالب واستحقاقات اللحظة التاريخية ولا ينطلق من تصورات أيديولوجية. لكن جمهورية يوليو - وهي بنت الإسلام السياسي والاشتراكية الوطنية معا – هي ثاني محاولة ناجحة للهندسة الاجتماعية السياسية بعد محمد علي. وعندما انفصلت جماعة الإخوان عن حركة الجمهورية كان ذلك بسبب عبادتها لوثن ثان من الأوثان التي أقامها الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وهو وثن الجماعة «المصطفاة» التي يربي المرشد كوادرها بعيدا عن سلطة الدولة وعن رقابة الرأي العام. ورغم أن الجماعة يختارها المرشد على هواه فهو يحشو أدمغة الكوادر بوهم أنهم جماعة ربانية، كما فعل عبد الرحمن بن الأشعث مع أتباعه أيام الأمويين ، وحسن البنا لم يخف افتتانه بابن الأشعث (الطاووس) الذي كان يماثله غرورا وعنفا.تحت تأثير هذا الفكر انفصلت جماعة الإخوان عن جمهورية يوليو وفرّت إلى نظم متخلفة اجتماعيا وسياسيا، فأشبع مشروع الهندسة الاجتماعية السياسية عندهم بمقولات وتصورات متخلفة. والوثن الثالث هو وثن «السرية» فالجماعة التي دعا إليها الأفغاني ومن بعده محمد عبده كان المخطط لها أن يتم تربية كوادرها سرا، وربما في مكان بعيد عن وطنهم. ولابد أن نتذكر أن جمال الدين الأفغاني الذي استقال من المحفل الماسوني الإيطالي ليسعى للانضمام للمحفل الفرنسي بمجرد وصوله إلى باريس كان رجلا لا وطن له، وقد اتبعه محمد عبده ثم عادت به وطنيته إلى جادة الصواب. أما حسن البنا فارتباط والده الشيخ أحمد البنا بالبلاط الملكي السعودي جعله من البداية يتطلع إلى ما وراء حدود مصر، ولكن في إطار يساعده على خدمة العرش السعودي (ربما لينقلب عليه بعد بلوغ مرحلة القوة تأسيا بمثله الأعلى عبد الرحمن بن الأشعث) فراح يفاضل بين تأسيس مشروعه في اليمن أو في مصر، ولخدمة العرش السعودي في الحالتين . وهكذا فالسرية ، قبل أن تكون تقية، هي جزء من الانفصال النفسي عن الجماعة الوطنية بهدف تخليق أوتوليد «الوطن الفكرة» في المكان المناسب لطموحات القيادة. والوثن الرابع بين الأوثان التي يتعين هدمها لاستنقاذ شباب الإخوان من تضليل قياداتهم هو «القوة» فعبادة القوة التي يرمز إليها سيفان متقاطعان وثن خطير لابد من هدمه . ويكفي أن تنظر إلى آلاف الصور الفوتوغرافية وشرائط الفيديو لشباب مسلم مسلح ملثم يرتكب المذابح أو يهدد بها لتعرف مدى ارتباط الاسلام بالعنف في زمننا وضرورة تخليص شبابنا من عبادة العنف المرتبطة بتجارة الموت الرائجة منذ ظهرت جماعة الإخوان في العشرينات من القرن الماضي . وخامس الأوثان وأخطرها هو وثن « السلطة الدينية» الذي أقامه حسن البنا مدفوعا بطموحه الجامح عندما جعل الحكومة ركناً من أركان الإسلام بقوله «وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد. والعلاقة وثيقة بين الأفغاني والبنا في هذه النقطة لأن الربط بين الحكم والدين توجه شيعي أصيل. ثم نأتي للوثن السادس وهو وثن «المستبد العادل» وهذا مبدأ أسس له الأفغاني ودعا له محمد عبده وطبقه جمال عبد الناصر. وثبت فشل الشعار بعد هزيمة يونيو فتخلى المستبد العادل جمال عبد الناصر عن سلطاته لثلاثة من رجاله كما يقول لنا جمال حماد. لكن الديكتاتورية استمرت، حتى بعد إسقاط السادات لمراكز القوى وظهور الديمقراطية الديكورية في عهده ثم في عهد مبارك. ثم جاء الإخوان الذين يجسدون عقيدة المستبد العادل من خلال التزامهم بمبدأ البيعة وبممارسة السمع والطاعة، جاءوا عبر الصناديق ليعيدوا تأسيس الديكتاتورية، وهي لعبة قديمة لم تعد تنطلي على الشعوب.