«زوجى طعننى فى شرفى وسوأ سمعتى».. هكذا صدحت «رضا»، ذات ال36 عامًا، بصوت مبحوح نال منه ألم جم، بعد أن جثت على ركبتيها فى ركن منزوٍ بمحكمة أسرة زنانيرى من فرط الوجع، كل من يراها يؤلمه حالتها التى يرثى لها، حتى استندت على أحد المارّة لتقول: «مختل عقليًا.. عِشت مُهانة مع رجل أشبعنى صفعًا وركلًا وعلى مرأى ومسمع من الجميع» لتنهار بلا وجل ولا خوف فى وصفه «هو عار على البشرية قاطبة». تبادل المارة نظرات الشفقة على حال تلك الزوجة الثلاثينية ذات الهيئة الحائرة والنظرات المرتبكة والوجه الخمرى الشاحب الذى خيّم عليه وجع لا يطاق، لتشد عودها وتلزم مقعدها المتهالك القابع فى أقصى ركن منزوٍ بالمحكمة، وكأنها أسيرة له لا تقوى على الفكاك منه، فتوقف هذا وتسأل ذاك مرددة «أين قاضى العدل فى أرض الظلم.. أين كلمة الحق فى زمن الباطل.. أين رد الشرف فى اتهامات العِرض؟!». ثارت ثائرة الزوجة وهاجت وماجت وتغيّرت ملامح وجهها الخمرى الذى نحت الحزن قسماته، وحفرت الدموع ممرات لها عليه فملأت صيحاتها جنبات قاعة الجلسات حين تعصف بذهنها مشاهد توسلاتها لزوجها الذى لا يعنيه فى الحياة سوى التشهير بها وبسمعتها – حسبما روت - فلم يخرجها من دوامة حزنها وتفكيرها سوى صوت الحاجب الأربعينى الأجش ذى الشعر الأسود المجعد الذى أذن لها بالمثول أمام القاضى للنظر فى قضية دعوى الطلاق للضرر التى أقامتها ضد زوجها بسبب اتهامه لها بالخيانة - على حد قولها -. تبدأ الزوجة الثلاثينية حديثها وهى تشيح بنظرها إلى لوح زجاجى مشروخٍ من المنتصف كقلبها: «منذ نعومة أظافرى وأنا أنشأ فى قرية صعيدية خشنة محافِظة ذات أعرافٍ وتقاليد، وظروف أسرتى المادية حالت بينى وبين إتمام تعليمى، حتّى كُتّاب البلدة لم أزره إلا مرات نزيرة، فما بالبيد حيلة.. فمكثت أحلم بالخروج من عنق الزجاجة، فكم حلمت بالسفر إلى القاهرة، والتجول فى ضواحى مصر المحروسة، فلم يكن أمامى خيار سوى الحلم، والدعاء بأن يرزقنى الله شخصًا ينتشلنى مما أنا فيه، حتى تقدم لخطبتى ابن عمتى «مصراوى العيلة» - هكذا كانوا يصفونه - سمعت أنه نزح مع وهج الشباب وفورته إلى القاهرة، طلبًا للكسب والارتزاق، ولم يعرف عنه أحد أى شيء سوى أنه ميسور الحال، فهذا هو فتى أحلامى الذى لطالما رسمت أحلامى ومستقلبى معه». رفعت رضا منديلًا تحتوى به عبرات تترقرق بين جفنيها وعلى خدّيها، لتواصل حديثها بانكسار: «نظرت لزواجى منه بعينين واقعيتين، صريحتين، صادقتين، عينين تريانِ الجانب المادى من الحياة أهمّ وأولى من الجانب الشعورى، ومن فرط جمال حديثه عن النعيم الذى يعيش فيه هناك ظننت أن الفرحة أنشدت على وتر قلبى الحزين، كما أننى لو كنت طائرًا بجناحين، لأصطدم بالواقع المؤلم، وتغلب يد القدر أيدينا، فنحن أحيانًا نعيش حلمًا ونستيقظ منه فجأة، فنجده كابوسًا، وتمضى حياتنا خلف السراب.. ورُبّما نبنى أحلامنا على أشخاص، ونخالها أحلامًا جميلة، لكنها ليست أحلامًا إنما هى آلامُ.. آلام عظيمة وحسرات مريرة نتجرعها بالكؤوس». تخلّت رضا عن تحفظها فعادت دموعها تنهمل مرة أخرى ضاقت بها ذرعًا فتركتها حتى أغرقت خدّيها، راسمة عليهما خطّين طويلين، لتفصح عمّا أثقل صدرها لسنوات قائلة: سرعان ما تمت الزيجة وسافرت معه إلى القاهرة، لأجده يصطحبنى كعروس إلى عش الزوجية «قصر أحلامى»، مثلما رسمته وفتحت فيه نوافذ أحلامى، لأفاجأ بغرفة مسقوفة بألواح خشبية تقع فى أحد الأحياء الشعبية الفقيرة، شتاؤها قارس وصيفها نار الله الموقدة، يغمرها ماء الصرف ويشارك الحياة فيها الفئران والحشرات، وقع عليّ هول المنظر كوقع الصاعقة، لم أصدق ما أنا فيه، هل هكذا تُرجمت أحلامى، هربت مما كنت عليه لأحيا فى نعيم القاهرة، هل تلك الحياة هى ذاتها حياة النعيم التى وعدنى بها، ولم يخرجنى من دوّامة فحرى سوى صوت ضحكاته العالية التى قابلتها بصمت ورأس منكسة، ليكون رده «مش كفاية نشلتك من فقر الصعيد وجيبتك معايا مش ده اللى عوزاه».. لتهتز رأسه ويكمل «ده بدل ما تشكرينى إنى اتجوزتك وقلت بنت خالى أولى أما البنى آدم مننا طمّاع يا ولاد»... حينها أدركت أنه نصب لى فخًّا ووقعت فيه. شعرت الزوجة البائسة بوخزة فى صدرها آلمتها فلامستها فعادوت تلوح برقبتها صوب نافذة صغيرة حتى لا تلفت الدموع المترقرقة فى عينيها انتباه أحد وهى تقول: رضيت بما كتبه الله لى، وقبلت بالعيش معه، وسلّمت للأمر الواقع، فليس أمامى خيار آخر، ومرّت الأيام التى كانت كفيلة بأن تكشف لى عن وجهه القبيح المشرب بالإساءة، فكان دائم الإساءة لى، وما كان من شيء يروق له أكثر من إهانتى، وكنت أتجاوز هذه الإهانة وألقى بها عُرض الحائط، فليس لى أحد يوقفه عند حده، فماذا بعد هل أعود إلى الصعيد ثانية حاملة جنينى فى أحشائى، وأجر أذيال الخيبة لأعيش عالة على والدتى العجوز التى لا حول لها ولا قوة، وتؤمن بأن الطلاق من المحرمات، وأن الست مكانها بيت زوجها، ووجب عليها طاعته، وتنفيذ أوامره كافة، حتى يرضى عنها الله، مهما فعل بها حتى ولو كسرها وجرح أنوثتها وكرامتها، وجعلها تفقد الثقة بنفسها وتفكر فى الخلاص من حياتها لترتاح من المر الذى ذاقته؟. تحاول رضا السيطرة على الارتعاشة السارية فى أوصالها بعد أن أزاحت زفرات الدموع بطرف أكمام ملابسها السوداء الرثة لتواصل: أجبرنى على العمل معه على الكورنيش ك«بائعة حمص الشام»، كنت أعمل ليلًا ونهارًا أذوق لسعة برد الشتاء، وأبيت على الأرصفة فى عز الصقيع، الذى نال من قلبى قبل جسدى، فتجمّد لُبّى قبل الأطراف، ويا ليته حفظ لى جميل ما صنعت ومساندتى له ووقوفى جواره بل ازداد فى طغيانه وارتكب فى حقى أضعاف أضعاف، فكان ينهال على جسدى الهزيل بالضرب المبرح ويصفعنى باللكمات أمام المارّة والبائعين، وحين رخوت يداى شكوته لذويه وأصدقائه، ليقلب الآية عليّ وينتقم منّى فى أبشع صور الانتقام، وينتهى به المطاف إلى أن يتهمنى فى أخلاقى زورًا وبهتانًا، ليحسّن صورته أمامهم، ظنًّا منه بأنه يحافظ على رجولته.. ولكن بعض الظن إثم!. شهقت رضا شهقة وكتمت أخرى ثم أطلقت آهاتٍ كأنها نفثات المصدور أو زفرات المحزون بعد أن باحت بما يخالج نفسها من همٍ وغمٍ لتختتم روايتها قائلة: فبصرف النظر عن بشاعة صورتى وبطلان ما يزعمه، فوجئت به يلتقط لى الصور مع أناس «بائع الشاى تارة، وبائع الحلوى تارة أخرى» يتهمنى بخيانته معهم، بل وصل به الأمر بأن صوّرنى وأنا أحاور سائق التوك توك بعد أن استقلنى بمركبته إلى السوق، وكل هذا افتراءً منه ليُصدق الناس صحة ما يزعمه ويجمّل من صورته وهيئته الملائكية، فى محاولة منه لإثبات «أننى زوجة خائنة»، شعرت بالعار وبالخزى، بوجعٍ جم تنوء بحمله الجبال الرواسى، فهل يحق لى بعد هذه المرة أن أغفر زلاته هذه المرة تلو المرة، حينها مات فى قلبى وهو حيٌّ يُرزق، وأبقى إلى جواره خشية كلمات الناس التى لا ترحم من حملت لقب مطلقة حتى ينتهى بى المطاف فى نعش خشبى أو زنزانة عفِنة، طلبت الطلاق كثيرًا، لكنه رفض فى كل مرة وفى الأخيرة كان أمام والدتى التى تحايلت على مرضها وأتت لتطمئن على حالى، فتطاول عليها، لم يراعِ حتى صلة القرابة، بل تمادى وسبّها على مرأى ومسمع من الجميع، فلجأت إلى محكمة الأسرة بزنانيرى طالبة تطليقى منه طلقة بائنة للضرر، وأسأل الله لى الخلاص من هذه الحياة، فبئس الحياة التعيسة معه، فهى أشبه بالموت البطئ.