يقال إن العبقرية تقاس بالإنجاز، أي أننا بإمكاننا التعرف على شخصية العبقري، من خلال انجازاته التي حققها، ومدى تأثيره فيمن حوله، وقيل أيضاً إن النبوغ والإبداع والقيادة هي أهم سمات العقبري. فالنبوغ المتميز والإبداع الفائق، والقيادة الحسنة البارزة، تمثل المظاهر الأساسية للعبقرية. كانت تلك مقدمة لابد منها، وأنا أبحث عن كلمات تعبر عن بعض ما أحسست به خلال اليومين الماضيين، وبالتحديد بعد أن سمعت نبأ رحيل الصديق المبدع العبقري المتواضع عادل القاضي إلى جوار ربه، فحتى اللحظة التي بدأت فيها كتابة هذه السطور لم استطع أن اكتب حرفا واحد في حق ذلك الرجل الذي بنا مؤسسات حية تسير على قدمين، وتؤثر في دنيا الناس ليل نهار، هذا وإن كنت لم أصاحب القاضي كثيرا غير أنني عرفته جيدا ومنذ زمن من آثاره وتلامذته، قبل أن أتعايش معه خلال الشهور القليلة الماضية في بوابة الوفد الإلكترونية. يقول الناس في بلدي إن لكل إنسان نصيب من اسمه، وفي بعض الأحيان تأتي المصادفة العابرة كأنها قدر مدبر، وليس أدل على ذلك من "عادل القاضي"، فهي بالتأكيد ليست مصادفة أن يكون اسمه عادل، لأن عادل في الحقيقة كان يتحرى العدل والحق في كل قرارته وأحكامه. وقد عرفت في مجال المهنة الكثير، قد يكون أغلبهم صحفيين مهنيين، لكنهم لا يصلحون أبدا لبناء الأشخاص ولا المؤسسات، فعبقرية القاضي كانت تكمن في نفاذه بسهولة إلى عقل روح من حوله، وحنكته في إدارة أي مجموعة من البشر بسهولة مطلقة، وامتلاكه زمام الأمور. إن مظهر عبقرية القاضي تلمسه في أي مؤسسة عمل بها، تلمسه في روح عمل الفريق، حيث إن من يعمل مع القاضي لا يكون مجرد فرد في مجموعة من الناس، يمارسون وظيفتهم وفقط، فهذا أمر مفروغ منه وهو أقل مظاهر عبقرية القاضي، لكن البناء الداخلي لتلك المجموعة هو الأكثر دلالة على عبقرية الإدارة والقيادة والنجاح، هذا البناء الذي يعتمد على علاقة الانسجام والاحترام التي تربط بين أفراد الأسرة الواحدة. كان القاضي يفضل النقاشات المشتركة، اقتراح الأفكار، لا يحب الحدود الفاصلة بين تخصصات الزملاء، لا يحب الألقاب، بل يؤكد دائما على ضرورة الاحتكاك بين طاقم العمل لتوليد الأفكار الجديدة المبدعة. كان لديه – رحمه الله - عبقرية متفردة في استخدام طاقة الأفراد الكاملة بحب وببذل واخلاص، وتوظيف طاقة المجموعات كاملة، في نشاط وهمة كاملة، لا تشعر بأنك ترغب في الراحة، ولا في التحايل لتمضية عدد ساعات عمل معينة، فأنت دائما مشغول البال، وهذا كله لا يتحقق بمجرد استثارة الحس الصحفي، وإذا قصر الإعلامي همه على هذه الاستثارة فإنه سينتهي به المطاف لنوع من الأنانية لن يبني من خلالها شيئا يعتز به، وقد نجح القاضي فى أن يتجاوز هذا داخل كل من عمل معه، وأن يلهم كل من قابله ذلك النشاط الغريب الذي تجده بعملك في نطاق المجموعة والمؤسسة، بحكم روح التآلف الذي يحكم نظام المجموعة ذاتها، ويرغمك على استنفاد طاقاتك كلها دون بخل أو تبرم. وفي رأيي أن تلك العبقرية في بناء المجموعات والمؤسسات والقدرة على تجميع تلك الأنماط المختلفة من النفوس، والعقليات، والأعمار، والبيئات كلها في مكان وعمل واحد، كما اللحن الموسيقي الفريد، وإضفاء طابعه الودود و"البشوش" والمخلص عليها، بحيث تراها كلها تعمل في اتجاه واحد وذاتي الدفع لصالح المؤسسة التي تجمعهم، لهي أسمى صفات العبقرية التي تحلى بها عادل القاضي. ويمضي عادل القاضي إلى جوار ربه، يمضي وقد ترك بصمته الواضحة على كل مؤسسة عمل بها، واستكمل رسالته الأخلاقية والمهنية السامية، ونقلها إلى كل من عمل معه، ولعل "بوابة الوفد الإلكترونية" تعد بمثابة آخر نموذج ناجح ومكتمل لبناء المؤسسات الإعلامية، والتي حققت نجاحا باهراً في فترة زمنية قصيرة جدا، وقد اكتسبت سمته وطابعه هو ورفيق مشوار كفاحه وصديق عمره عادل صبري، أطال الله في عمره، وتنسم كل من يعمل بالبوابة روحه وإخلاصه وتواضعه وأدبه الجم، وكان رحيله في نهاية الأمر على النحو الذي أراد له القاضي: حافزا وعهدا بين كل الزملاء على استكمال حلمه والحفاظ على مبادئه المهنية والخلقية في العمل الإعلامي والصحفي. وسيظل دائما القاضي ملهما لنا، نحمله دائما في قلوبنا وعقولنا، وهذه أرقى أوجه العبقرية في شخصيته –رحمه الله- حيث تظل روحه تلهمنا الانسجام وحيث يستمر البناء والنجاح رغم انتقال القاضي إلى جوار الرحمن.