نُحتت ملامحه من أرض مصر الخصبة، ورويت من مياه النيل العذبة، وظلت رموش عينيه على شعبه وأمته، فحفر اسمه في قلوب المصريين التي مازالت تنبض بالحب كلما ذُكر اسمه. رجل شعبي أحس وشعر بما يعاني المصريون منه، ظُلم حيًا وميتًا، وتكالبت عليه القوى، فظل صامدًا متماسكًا، حتى لحظات وداعه، فغار منه ومن حب الناس له من جاء من بعده. ولي من أولياء الله كما قال عنه جمال عبد الناصر، ونموذج للأفندي المصري الطيب، فلاح بسيط، اعتلى القمة، لُقب بالرئيس الجليل، المصريون وجدوا فيه شبيهًا لهم وواحدًا منهم، غضبت عليه الحكومة وعزلوه، لكن الشعب وهو يودعه قال كلمته. هو واحد من أبرز زعماء الاستقلال والديمقراطية في مصر والوطن العربي، لعب دورًا سياسيًا هامًا في مصر واستكمل مسيرة الزعيم سعد زغلول فتمسك بالمبادئ وصمد أمام الأزمات، إنه الزعيم مصطفى النحاس باشا أحد زعماء حزب الوفد والذى يوافق اليوم ذكرى رحيله 23 أغسطس عام 1965. نشأة مصطفى النحاس باشا مصطفى النحاس باشا، زعيم الأمة.. هذا الفلاح المصري البسيط، ابن مركز سمنود التابع لمحافظة الغربية، الذي ولد في 15 يونيو 1879، في أسرة بسيطة ومتواضعة الحال، أبٌ كان يعمل تاجر أخشاب، ساعده على أن يتخرج من الكتاب وأرسله ليعمل في مكتب التلغراف، فما لبث إلا وأن أثبت جدارته في الاستقبال والإرسال وعملية الترجمة، فلفت أنظار نائب الدائرة الذي طلب من والده أن يسافر ابنه إلى القاهرة ليتعلم هناك. في القاهرة تخرج مصطفى النحاس باشا في مدرسة النصر الابتدائية ثم الخديوية الثانوية كان الأول على دفعته في مدرسة الحقوق عام 1902 وعمل في مكتب محمد فريد الذي انتمى للحزب الوطني وشارك في تأسيس نادي المعلمين 1906، عمل في المحاماه حتى 1903، ثم عمل بالقضاء وحصل على رتبة البكوية. هو أنقى زعماء مصر وأكثرهم من تعرضوا للظلم استطاع أن يخترق قلوب الناس بطرق بسيطة جدًا، عندما وطأت قدماه أرض القاهرة، قالت والدته لوالده عند وصولك تذهب به – الابن- إلى مقام سيدنا الحسين وتوصيه أن يكون في زمته، وفعل ذلك الأب. موقف مصطفى النحاس باشا من الدين والسياسة كان مبدأه أن دخول الدين في السياسة هو دجل، لذلك منع حسن البنا من الترشح لمجلس الأمة، وقال له أنت رجل دين. ماذا قال جمال عبد الناصر عن مصطفى النحاس باشا؟ قال عنه جمال عبد الناصر أنه ولي من أولياء الصالحين ومحاكمته من قبل مجلس قيادة الثورة لن يفلح أبدًا وذلك مذكور نصًا في كتاب البحث عن الذات من تأليف الرئيس الراحل أنور السادات. مصطفى النحاس باشا القاضي الثوري لعب دورًا مهمًا فى ثورة 1919، وقد اختلفت الروايات حول ذلك الدور، فهو كان وكيلًا لنادى المدارس العليا الذى لعب دورًا رئيسيًا فى تحريك وتحريض الطلبة قبل الثورة، والذى كان إحدى أدوات الحزب الوطنى المهمة خلالها، وهو ما يتفق مع مبادئ النحاس فى ذلك الوقت، بجانب أن الطلبة كفئة اجتماعية كانت تشعر بالظلم الذى ينتظرها مثلها مثل بقية المهنيين، خاصة المحامين، حيث أضحى مصير الطلبة مثل مصير الخريجين أو كما يقولون «هم السابقون ونحن اللاحقون»، وخير تعبير عن ذلك الشعور هو اعتراف أحد الفدائيين المتهمين باغتيال موظف بريطاني يعمل في خدمة الحكومة المصرية، بأن ما دفعه إلى ذلك الفعل هو الرغبة فى إفساح الطريق أمام الشباب للالتحاق بالوظائف الحكومية، لذا نرى أن الطلبة كانوا يشكلون واحدة من أهم القوى الضاربة فى الحركة الوطنية بعد المحامين. حمل المنشورات داخل ملابسه لكى تصل إلى طنطا، والمُحرّض الذى قاد لجان الطلاب عندما كان وكيلًا لنادى طلاب المدارس العليا. وقد سُئل الكاتب إبراهيم فرج باشا عن اشتراك النحاس في تنظيم الطلبة في ثورة 1919، فأكد ذلك، وهو ما يتفق مع كونه وكيلًا لنادى المدارس العليا. وأمّا عن دوره فى إضراب الموظفين، فقد كان هو الوسيط بين لجنة الموظفين فى القاهرة والمحامين من جانب، ولجنة الموظفين فى القاهرةوطنطا من جانب آخر، حيث كان يعمل قاضيًا، فكان عليه السفر بين (القاهرةوطنطا) حاملًا المنشورات داخل ملابسه حتى يتم توزيعها بين أفراد الشعب، وكان معه من لجنة المحامين بطنطا «عبدالسلام فهمى جمعة ومحمد نجيب الغرابلى» اللذان أصبحا من قيادات الوفد بعد ذلك. دخول مصطفى النحاس باشا السياسة يُعد دخول "النحاس" الحياة السياسية مرتبطًا بإعلان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون للمبادئ الأربعة عشر التي أُذِيعت بعد الحرب العالمية الأولى، حينما نادى الرئيس الأمريكي بحق الشعوب الصغيرة في تقرير مصائِرها، أثر هذا في وجدان النحاس الذي كان يكن شعورًا عدائيًا تجاه الاحتلال البريطاني لمصر. كان النحاس وقتها يعمل قاضيًا بمدينة طنطا، ويلتقي ببعض أصدقائه في القاهرة بمكتب المحامي أحمد بك عبد اللطيف من المؤيدين لفكر الحزب الوطني، وشغل المجموعة التفكير في آلية لإيصال صوت مصر للعالم، وكان هذا هو الفكر السائد لدي المجموعات السياسية في هذا الوقت. بدأت المجموعة في التواصل مع سعد زغلول، نائب رئيس الجمعية الشرعية حينها، فتطوع علي ماهر (مدير إدارة المجالس الحسبية بوزارة الحقانية -العدل حاليًا) للتواصل مع عبد العزيز فهمي عضو الجمعية وأحد المقربين من سعد زعلول. فشل ماهر في إقناع فهمي باستعداد المجموعة للعمل تحت قيادة سعد زغلول، وقرر النحاس الذهاب بنفسه لإقناع فهمي بذلك فغنم النحاس بموافته، وأخبره بأن هناك نية لتشكيل وفد مصري يتحدث باسم مصر، وهناك توجه بدمج كافة فصائل المجتمع في هذا الوفد، حتى لا يتهم الوفد بالحزبية. بدأ سعد زغلول بتشكيل الوفد، وأدرك حينها أنه لو سمح للحزب الوطني إرسال مرشحيه، لأرسل المغالين منهم، ما كان سيجهض أي مفاوضات. وسعى سعد زغلول إلى ضم عناصر من الحزب الوطني من اختياره تجنبًا لأية صراعات، لذا اختير مصطفى النحاس وحافظ عفيفي في 20 نوفمبر 1918 ضمن أعضاء الوفد السبعة. مصطفى النحاس باشا وسعد زغلول باشا وثورة 1919 أصبح النحاس الساعد الأيمن لسعد زغلول، وعُين في يوليو 1920 سكرتيرًا للجنة الوفد المركزية في القاهرة بعد اعتقال عبد الرحمن فهمي . بعد انضمامه لسعد زغلول في باريس، قدم إليه تقرير حول رأي الشعب في مشروع ملنر، ورافق زغلول إلى لندن في أكتوبر 1920. نُفِي مصطفى النحاس وسعد زعلول ومكرم عبيد وآخرين عام 1921، وكان من أقرب الناس للزعيم سعد زغلول الذى عينه سكرتيرًا عامًا لحزب الوفد، كما أنه كان نفيا معه في أعقاب ثورة 1919، وكان سعد بالنسبة للنحاس رجل المبادئ والوطنية، فعملا معًا في حب الوطن حتى توفي سعد زغلول في 23 أغسطس 1927. شارك "النحاس" في أول حكومة وفدية تم تشكيلها وكانت في 28 يناير 1924 برئاسة سعد زغلول، وكان النحاس وزيرًا للنقل والمواصلات، ثم ترأس حزب الوفد بعد وفاة سعد زغلول ثم رئيسًا للبرلمان، كان النحاس رجلًا يدافع عن وطنه وقضيته ومصالح الشعب حاملًا راية النضال كزعيم لحزب الأغلبية في أحلك الظروف التي مرت بها الحياة النيابية في مصر . تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة سبع مرات خلال الفترة من مارس 1928 إلى يناير 1952، كانت فكرة العربية تلمع في أذهانه حتى اجتمع مصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري وقتها مع كل من رئيس الوزراء السوري ورئيس وزراء في البنان، هدف الاجتماع لإنشاء جامعة عربية بهدف الاهتمام بالدول العربية وتخفيف همومها حتى بدأ العمل الجاد في بناء هذا الكيان جامعة الدول العربية . مع قيام ثورة 1952 اعتزل حياته السياسية وتوفي في منزله بجاردن سيتي 23 اغسطس 1965م وشيعت جنازته من مسجد الحسين إلى مقبرته في منطقة الإمام الشافعي. احتجاجه على تعيين الإنجليز له في 5 فبراير 1942م أرسل "النحاس" احتجاجا إلي السفير البريطاني في خطابه المشهور استنكر فيه تدخل الإنجليز في شؤون مصر جاء فيه: "لقد كلفت بمهمة تأليف الوزاة وقبلت هذا التكليف الذي صدر من جلالة الملك، بما له من الحقوق الدستورية وليكن مفهوما أن الأساس الذي قبلت عليه هذه المهمة هو أنه لا المعاهدة البريطانية المصرية ولا مركز مصر كدولة مستقلة ذات سيادة يسمحان للحليفة بالتدخل في شؤون مصر الداخلية وبخاصة في تأليف الوزارات أو تغييرها". رد السفير البريطاني مايلز لامبسون على "النحاس" بخطابه قائلا: لي الشرف أن أؤيد وجهة النظر التي عبر عنها خطاب رفعتكم المرسل منكم بتاريخ اليوم وإني أؤكد لرفعتكم أن سياسة الحكومة البريطانية قائمة على تحقيق التعاون بإخلاص مع حكومة مصر كدولة مستقلة وحليفة في تنفيذ المعاهدة البريطانية المصرية من غير أي تدخل في شؤون مصر الداخلية ولا في تأليف الحكومات أو تغييرها. جنازة مصطفى النحاس باشا بعد انقطاع وانعزال عن السلطة دام 13 سنة، ووقت وفاته علم الناس صدفة من مذيع الراديو، واحتشدوا أمام المنزل وحاولوا اختطافه، وطالبت الشرطة المصرية أيضًا جثمانه، إلى أن الحشود التي يُقال أن وصلت إلى مليون فرد، ورغم الظروف السياسية والمناخ الصعب الذي كانت تعيشه مصر في ذلك الوقت، سارت الجنازة من عمر مكرم إلى مسجد الأوقاف "شركس" ثم وصلت إلى مسجد الحسين وسط هتاف من الشعب: "يا ابن بنت الزين جاءك الحبيب الزين". عند خروج الجنازة ظهر هتاف جديد، "لا زعيم بعدك يا نحاس بلغ شكوانا لسعد باشا يا نحاس"، فاعتقلوا لمدة 6 سنوات، فعاش النحاس زعيمًا ومات زعيمًا.