علي مذبح الجدل قدمت التيارات السلفية قضية تطبيق الشريعة.. فأصبحت علي مدي أكثر من أسبوعين مادة للأخذ والرد والغمز واللمز بشكل أضر في النهاية بموقفهم أكثر مما أفاده. النظرة العامة لحصاد ما جري علي مدي أكثر من أسبوعين بشأن مليونيات الشريعة تشير الي أن هناك قدرا كبيرا من الخلط والأباطيل بشأن تطبيقها ليس علي مستوي طرف واحد فقط وإنما علي مستوي العديد من الأطراف التي خاضت في القضية حتي بات الحديث عنها مجالا للسمر أو الأسمار ليس إلا! علي صعيد التيارات التي خرجت تنادي بتطبيق الشريعة فإن الملاحظة الأولي علي أدائها أنها عززت حالة الاستقطاب الحاصلة في المجتمع وتقسيمه الي فسطاط إسلامي وآخر علماني ليبرالي اشتراكي.... إلخ. وهي الحال التي ينبغي تجاوزها وعدم العمل علي تكريسها باعتبار أننا كلنا في النهاية مصريون أولا وأخيرا، وإلا فما معني أن يرفع المشاركون في المليونية لافتات «إسلامية إسلامية.. رغم أنف العلمانية». ومن خلال سياحة عميقة في مجمل فمن الواضح أنه غاب عن موقف هذه القوي تقديم رؤية موضوعية هادئة للقضية الأساسية التي تنادي بها وهي تطبيق الشريعة، وقد لا نكون متجاوزين إذا قلنا إن الكثير من هؤلاء قد لا يكون لديهم رؤية محددة بشأن القضية التي خرجوا للحشد من أجلها أو أن رؤيتهم علي الأقل مغلوطة أو خاطئة.. ما يعني في النهاية أن مصطلح «تطبيق الشريعة» غير واضح لدي كثير من الداعين له وإذا كنا لسنا في موضع تنصيب أنفسنا للفصل في القضية غير أننا نذكر هنا بما ذهبت اليه رؤية نراها بالغة التعقل عبر عنها المرشح الرئاسي السابق عبدالمنعم أبوالفتوح حين أعرب عن تعجبه من مليونية الجمعة الماضية التي جرت تحت شعار «تطبيق الشريعة» مشيرا الي أن الشريعة مطبقة في مصر منذ قديم الأزل، وإذا كان هناك قصور في التطبيق فلندرس أسباب القصور وسبل التطبيق الجيد لأن الشريعة لن تطبق بالصوت العالي أو التظاهر. السؤال هنا: ألا تحارب الشريعة الفساد، فإذا جري التشديد علي ذلك في مواد الدستور وغيره فألا يعتبر ذلك تطبيقا للشريعة؟ ألن يأمر الله في كتابه بالعدل فإذا كانت روح الدستور تتلمس تحقيق هذه القيمة فألا يعتبر ذلك تطبيقا للشريعة؟ مؤدي ذلك أن مفهوم تطبيق الشريعة ليس مجرد ما يشيعه البعض لجهة حصرها في ذلك النطاق الضيق الذي تلتزمه تيارات سلفية الي الحد الذي يصل بعدد منها الي قصرها علي مفهوم تطبيق الحدود، وإنما كونها مفهوما شاملا يعكس رسالة الإسلام في الارتقاء بالإنسان علي كافة المستويات، ما يعزز دعوة البعض الي ضرورة النظر للشريعة من حيث كلياتها العامة ومقاصدها الأساسية. يؤكد ذلك، وفي ضوء ما استقر عليه العمل في إطار الجمعية التأسيسية حتي الآن خاصة بشأن المادة الثانية من الدستور، أن الخلاف ليس حول تطبيق الشريعة وإنما حول مفهومها، ما يعني أن علي الفصيل أو الفصائل المتحمسة لتطبيق الشريعة ألا تسعي لفرض مفهومها أو رؤيتها الخاصة، وإنما ترك الأمر لحوار مجتمعي يحدد السبيل الأمثل لصيغة التطبيق. وعلي هذا فقد بدا من غير التوفيق أن يخرج علينا أحد شيوخ الدعوة السلفية ليعلن أن من لا يريد تطبيق شرع الله فقد خرج من دين الإسلام، مانحا نفسه رخصة تحديد من هو مسلم ومن هو غير ذلك، كما لم يحالف التوفيق الشيخ حافظ سلامة في إشارته الي نقض الرئيس مرسي لوعده بشأن تطبيق الشريعة مع أن ذلك بافتراض الاتفاق علي مفهومها، لن يتم بين يوم وليلة أو حتي شهور. علي صعيد التيارات الأخري.. فقد وجد البعض في مليونية تطبيق الشريعة فرصة سانحة للتشهير بغض النظر عما اذا كان في ذلك ينطلق من رؤية موضوعية أم لا.. فراح البعض يروج لما يصفه بجمعة قندهار.. في محاولة للإشارة الي أن منظمي المليونية امتداد للفكر الطالباني المرفوض، كما راح آخرون يشيرون الي الرايات السوداء لتنظيم القاعدة رغم أن الخبر الذي تحدث عن هذه الرايات أشار الي أنها المعروفة إعلاميا بالرايات السوداء في محاولة للظهور بالموضوعية والتنصل من صفة تلصق بالمشاركين في المظاهرات قد لا تثبت صحتها. ووسط دخان التراشقات بشأن المليونية غابت أو غيبت بعض الرؤي العاقلة من قبل الداعين لتطبيق الشريعة، ومن ذلك ما ذهب إليه المحامي ممدوح إسماعيل نائب رئيس حزب الأصالة من أن قضية تطبيق الشريعة تحتاج الي تقنين وتدرج ومواءمة للظروف المحيطة، وأنه من غير الجائز الحديث عن تطبيق الشريعة في ظل الظروف الحالية، كما غاب تأكيد صفوت عبدالغني، ورئيس المكتب السياسي لحزب البناء والتنمية الجناح السياسي للجماعة الإسلامية علي أن مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية ليست في سلطة الرئيس ولا حتي الجمعية التأسيسية، وإنما هي سلطة مجلس الشعب القادم لأنه هو الذي يراعي المرجعية التي سينص عليها في الدستور. والخلاصة أن قضية تطبيق الشريعة يجب ألا تؤخذ بالحمية التي تضر ولا تنفع وإنما بأفق يتجاوز الإطار الضيق الذي نحشر أنفسنا فيه الي إطار أكثر اتساعا، وفي سياق توافق مجتمعي قد لا يكون هناك سبيل سواه إذا ما أردنا حقيقة الخروج من مرحلة الفوضي التي نحياها.