كلنا نعلم علم اليقين أن التداعيات التي أدت إلي الانهيار الاقتصادي للبلاد هي لا شك من نتاج تراكمات الأنظمة السابقة، وأحسب أن الخوض في أسبابها غلو لا طائل منه إلا النحيب والتفات إلي الوراء ربما لم يكن للرئيس وحكومته ثمة خيار للخروج من الأزمة الاقتصادية التي شارفت علي الانهيار سوي الاستدانة والقرض من صندوق النقد الدولي بتبعاته الثقيلة التي أراها ترقي إلي مرتبة الاحتلال المقنن.. وبينما أتأمل في مخيلتي مسلك الحكومة وتلك التصريحات حول المشروعات العملاقة التي طالما قارعت الآذان قبيل الانتخابات وأثنائها، التي قيل إنها ستأخذ بنا من غياهب الجحيم إلي حياة الرغد والظل والماء، وقد باتت الآن ضرباً من الخيال فوقفت مشدوهاً غير قليل حتي قدر لي أن أسمع عن كثب رؤية الأستاذ بهاء أبوشقة - أحد أهم القامات القانونية والفكرية وصاحب مدرسة الصمت الهادئ - حول سبل الخروج الأمثل من هذه الأزمة المزمنة فهو يري أن استرداد المليارات القابعة في البنوك الأجنبية خارج البلاد، أمر لا سبيل له إلا عبر قناة التصالح مع المتهمين في قضايا الفساد والاعتداء علي المال العام، وقد سبقتنا في هذا الصدد جنوب أفريقيا علي يد نيلسون مانديلا، فوق أن الفلسفة العقابية الحديثة تتفق مع هذا المنحني. ولعل ما يؤكد سلامة هذا المنطق أن اتفاقية مناهضة الفساد الدولي تضع شروطاً تشبه المستحيل وهي به أشبه ومنها مثالاً أن يكون الحكم الصادر بالإدانة حكماً باتاً وبيتوتة الأحكام لا تتأتي إلا بعد استنفاد المتهم لكافة طرق الطعن وهو ما يعني أمداً طويلاً من التقاضي يجعل من تحقق هذا الشرط أن يظل نظر مثل هذه القضايا في أروقة المحاكم ما يستغرق ولاية الرئيس وربما ما بعدها وقد يصدر في نهاية المطاف القضاء بالبراءة، كما أن بعض الدول تشترط توثيق هذه الأحكام لدي قضائها المحلي. كل هذه الشروط وأخرياتها تتطلب عمراً زمنياً طويلاً نحن في كل الغني عنه إزاء ظروفنا الفارقة التي تطحن المواطن وترهقه ونقع بالدولة في هوة سحيقة. ومن غضبة يناير المنصرم واللجان المنبثقة من وزارة العدل تعمل علي قدم وساق ولكن دون جدوي عملية، بيد أن التصالح سيحسم الأمر نهائياً وفي أسرع وقت بالحصول علي كامل المليارات المهربة للخارج غير منقوصة بعيداً عن بروتوكولات اللجان وإشكاليات الاتفاقيات الدولية المعقدة وهو ما يعبر بنا من تلك الكبوة إلي مصر جديد في ثوب أبيض وضاء ومزيد من الرخاء والرفاهية والاستقلالية في اتخاذ القرار فوق التحرر من عبودية سياسات صندوق النقد الدولي. فهل سيستجيب الرئيس إلي أطروحة «أبوشقة» ويصدر قراراً بقانون بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية بجواز التصالح في قضايا الفساد فيما يخص الاعتداء علي المال العام في أي مرحلة من مراحل الدعوي - ولا سيما أنه مازال يقبض علي سلطة التشريع - شريطة رد المبالغ محل التأثيم وتنقضي الدعوي الجنائية أثراً لهذا التصالح؟ تقول بعض الإحصاءات إن جملة المليارات المهربة للخارج جاوزت الخمسمائة مليار جنيه، فأيما إنسان هذا الذي يملك استردادها في مثل ظروفنا المتردية ولا يفعل!.. بدلاً من العدو خلف صندوق النقد الدولي الذي ربما يمنحنا الفتات بشروطه المجحفة فوق الكاهل إلا رغبة في التشفي والانتقام.. ولا تعليق. عاطف الجلالي - المحامي بالنقض