حينما عزمت الكتابة عن د. جابر عصفور تساءلت هل تجوز الكتابة فى رمضان عن مثقف غير تليفزيونى وفى وجود كل هذه المسلسلات الكثيرة؟ لكنى عزمت فهو مثقف مصرى وناقد كبير استطاع أن ينجز مشروعاً فردياً ومشروعاً ثقافياً مؤسسياً حكومياً فى ظروف صعبة وملتبسة بشكل كبير!! وبالرغم من أنه عمل فى وزارة الثقافة سنين طويلة أميناً للمجلس الأعلى للثقافة ثم رئيساً للمركز القومى للترجمة... إلا أنه لم يستسلم لإغواءات المنصب ليتخلى عن مشاريعه النقدية.. وتشجيع وتقديم أجيال جديدة من المبدعين والمبدعات فى كل المجالات والدفع بهم فى الحياة الثقافية عن طريق موقعه فى الحكومة وفى الحقيقة، لقد وظف المنصب من أجل المثقفين أو أغلبهم فى أحيان كثيرة!! (حتى لا يزعل أو يعترض البعض) فتكونت لجان المجلس لأول مرة منذ إنشائه من كل أطياف المجتمع الثقافى.. فضمت اللجان اليسارى والليبرالى والإسلامى والعديد من الكتاب المعارضين.. جميعهم كانوا يحاولون على قدر طاقتهم أن يدفعوا الثقافة إلى أماكن أرحب ذات تأثير أكبر وهو معهم!! ولكن كيف والمجلس رغم اسمه الضخم الرنان ولجانه الكثيرة الفخيمة محصور فى حجراته وقاعاته.. وكان أهم عمل يقوم به فى كل الحكومات هو جوائز الدولة... وقد حصل على الجوائز فى عصره رموز ثقافية محترمة مثل لطيفة الزيات وكامل زهيرى وبهاء طاهر.. أما مشروع التفرغ كبر وأصبح قادراً على خدمة ومساعدة أكبر عدد ممكن من المثقفين. ولكن سيظل مشروع التنوير الذى تبناه وعمل من أجل استكماله بعد رواد النهضة المصرية وعلى رأسهم عميد الأدب العربى طه حسين هو المشروع الأكبر والأهم فى مسيرته أنه حلم المثقف المهموم بمستقبل بلده. والآن كلما أرى الثقافة تتراجع والأفكار الظلامية تسود فى حياتنا دون كوابح ولا عقبات لتضرب وتنال من كل مكتسبات رواد النهضة المصرية لتعزيز هوية الوطن ووجوده، أتذكر محاولاته الدءوبة فى هذا الاتجاه وأتعجب من الذين كانوا يدينونه لعمله الحكومى وأتساءل وماذا يستطيع المثقف بمفرده فى مجتمع من العالم الثالث؟!! إن حلم المثقف وشوقه إلى تنفيذ أو تمرير مشروعه الثقافى الأثير يجعله فى أحيان كثيرة يتنازل أو يغمض عينيه عن ديكتاتورية الحاكم أو الممارسات الخاطئة.. إنها نفس أحلام رواد عهد النهضة ومهادنتهم الملك أحياناً!! رغم العصر الليبرالى العظيم.. ونفس أحلام المثقفين فى عصر عبدالناصر وعذابهم الكبير بين الحلم بأن ينفذوا مشروع النهضة الثقافية معه والواقع السلطوى لحكمه، وحلم صلاح عبدالصبور فى هيئة الكتاب وحلم سعد الدين وهبة حينما عمل مع السادات وهو الناصرى الكبير سيظل مشروع تنوير المجتمع وقدر كل مثقف مؤمن ببلده. لا تلوموا المثقفين على عصافير أحلامهم إذا طارت ولم تعد، لكننا سنظل ننتظرها حتى تعود.