من الصعب في وقت قصير يقترب من النصف ساعة أن تتحدث باستفاضة عن مشكلة طويلة عريضة مثل مشكلة الثقافة والمثقفين والنخبة في العالم العربي ، هذا ما استشعرته حينما استضافتني قناة الجزيرة صباح أمس لأجيب عن هذه التساؤلات ، ولكني وجدتها فرصة مناسبة من خلال منبر إعلامي له حضوره المؤثر في أوساط النخبة العربية لكي أدافع عن الجمهور العربي والمجتمع المستباح من السلطة السياسية ومن النخب الثقافية على حد سواء وهي تلك النخب التي تمارس سلطة كهنوتية أخرى بدعوى احتكار التنوير ووعي الحداثة ، فلطالما تعالت النخب الثقافية على مجتمعاتها واتهمتها بكل نقيصة مقابل تبرئة المثقفين لأنفسهم من الكثير من الممارسات التي تعتبر في بعض جوانبها خيانة لرسالة الثقافة وخيانة للأمانة التي يفترض أن يحملوها تجاه مستقبل أمتهم ومجتمعاتهم ، جوهر المشكلة في تقديري ينبع من تصور النخبة العربية أن دور المثقف هو التمرد على واقعه بكل ما فيه ، على قيمه وعلى أفكاره وعلى تراثه وعلى دينه ، ونبع عن ذلك تصور أن الفعل الثقافي الجاد هو الفعل الذي يمارس قطيعة مع المجتمع وجذوره ومرجعيته ونسقه القيمي والسلوكي والفكري ، وقد نشأ عن هذه القطيعة أن قابل المجتمع قطيعة النخبة له بقطيعة مقابلة ، فتجاهل نتاجهم الفكري وقاطع كتاباتهم ومجلاتهم وندواتهم وأنديتهم ، فعاش المثقفون حالا من العزلة عن واقعهم وجماهير الناس ، وعجزوا بالتالي عن ممارسة أي قيادة فكرية أو روحية أو أخلاقية ، كما هو جوهر دور المثقفين ، فتعززت القطيعة بين الجانبين ، النخبة المثقفة والمجتمع ، فتحولت النخبة إلى ممارسة دور الجلاد للمجتمع يتلذذ بإيلامه والتنكيل به والسخرية من كل ما يعتز به ويعتصم به ، بما في ذلك سب دينه أو الاستهزاء بمقدساته ، وأصبحت لا تكاد تجد قضية ثقافية الآن إلا وفيها قسوة جارحة ومهينة لدين المجتمع أو تراثه أو تاريخه أو ثقافته أو قيمه أو رموزه التاريخية ، دون أن يشغل أحدهم باله بتقديم أي رؤية إيجابية بناءة لصياغة مستقبل أفضل ، على الإطلاق لم يفعلوا ، وإذ انتقدت مثل هذا "القمع" الفج للمجتمع وثقافته وصفت بأنك ضد التنوير وضد الثقافة وضد حرية الإبداع ، فضموا إلى تقمصهم دور الجلاد دور المستبد الذي لا يطيق وجود رأي آخر مغاير لرأيه ، بل نشأت رؤية ثقافية عجيبة تستبعد من دائرة الثقافة والمثقفين أي مفكر أو شخصية تنطلق من رؤية حضارية إسلامية ، فالمثقف لا بد أن يكون يساريا أو ليبراليا أو وجوديا أو ملحدا أما أن يكون إسلاميا فهذا غير متصور عندهم !، وتحولت قصة التنوير والثقافة إلى ما يشبه الكهنوت الديني الذي شاع في القرون الوسطى الأوربية ، لا يملك مفاتيح فهمه ومعرفته إلا الكهنة "المثقفون" وعلى المجتمع أن يسمع لهم ويطيع ويقبل أياديهم ويفيض عليهم المال والحصانة لا أكثر ، فعاشت المجتمعات العربية تئن تحت صنفين من القمع ، السلطة تمارس القمع الأمني والسياسي ، والنخبة المثقفة تمارس القمع الفكري ، بل إن القطاع الأوسع من المثقفين عندما عاش وضع المنبوذ جماهيريا واجتماعيا ، ارتضى أن يحتمي بحضن السلطة هروبا من انتباذ المجتمع له ، ليكون سدنا لها وكاهنا في محاريبها ومرتزقا في مؤسساتها ، بدعوى التضامن مع الدولة المدنية لمواجهة الظلامية والفكر الغيبي ، وبالمقابل أغدقت عليهم الدولة الجوائز والنياشين والهبات والمال "السايب" ، مما أصاب حركة الثقافة بالشلل والعجز والبلادة ، وتلاشى دور المثقف إلى حد كبير ، وعندما تذهب إلى معارض الكتب لن يكون مفاجئا لك أن تجد كتابا تم تأليفه قبل ألف عام أكثر مبيعا من مئات الكتب التي تم تأليفها العام الماضي ، رغم الأسماء الضخمة الفخمة التي توضع عليه كمؤلفين ، لم تعد هناك ثقة في أن يكون هناك تأليف جاد أو ثقافة رصينة بين مثقفي هذا الزمان ، ثم تتوالى الأصوات والكتابات والندوات التي تتساءل في براءة عن سبب زهد الناس في الكتاب ، أو اتهام المجتمع بأنه "غير مثقف" أو جاهل بقيمة الثقافة ، أو أنه من فرط تخلفه لم يعد يدرك قيمة الثقافة .