أحدثت المسلسلات التركية المدبلجة، ومن قبلها المكسيكية، ضجة سلبية اجتماعية بين المثقفين والتربويين والإعلاميين، محدودة في بعض الأحيان، ومتسعة أحياناً أخرى، لا تتناسب مع حجم الانجذاب الجماهيري والقبول والإقبال العام عليها، لا سيما في منطقة الخليج، حيث الرواج منقطع النظير من قبل شرائح ممتدة من الناس، وكانت هذه الضجة تأخذ في بعض أشكالها نموذج تأنيب الضمير الاجتماعي والخوف الباطن على إرث تقليدي وتربوي يمس أدق العلاقات الاجتماعية تلك التي بين الرجل وزوجته، أو التي بين الفتاة والشاب وأهلهما وبيئتهما المحيطة. ومهما حاولنا التغاضي عن ضجيج هذه المسلسلات، إلا أنها باتت بلا شك واقعاً مشاهداً وملموساً بشكل يومي، يفرض من خلاله أبطال هذه الدراما همومهم ومشكلاتهم وأحلامهم وتحدياتهم الاجتماعية على مجتمعنا، ويقحموننا في قضاياه اليومية، في جو تملؤه الرومانسية وجرعات العاطفة الجياشة حيثما نظرت في ثنايا الحلقات. لا ننكر هذا الواقع، وإن كنّّا نستنكره، ولا نغفل تعميم متابعة لحظاته، لا أقول حلقاته، غير أننا نستغرب التعمية على أثره الاجتماعي على المدى البعيد، تحت دعاوى الانفتاح الإعلامي والاطلاع على ثقافات الغير، أو الاستفادة من التجارب الدرامية العالمية. كل هذه المبررات جعلت المسلسلات المدبلجة تتسلل إلى الجماهير وتخدر الملايين لساعات تفوق في مجموعها الذي يصل في بعض الأحيان مئتي ساعة تلك التي يحتاج إليها طالب جامعي ليحمل شهادة البكالوريوس أو الدراسات العليا. وفي تحليل مقارب نفسي لسر انتشار هذه المسلسلات في أوساطنا قد يتبادر إلى الذهن المساحة الكبيرة من البساطة والعاطفة التي تحملها المسلسلات المدبلجة مقابل الدراما الخليجية، تحديداً المليئة بجرعات الحزن الطافح والضجيج المزعج والبكاء الممض والنواح المؤلم التي تغص بها بصراحة عموم مسلسلاتنا، لتقدم المجتمع الخليجي والأسر المحلية وكأنها غائرة في ركام من الآلام ليله ونهاره. وللأسف أن الهوس الجماهيري بتلك الدراما الوافدة يفسر شيئاً من هذا التعطش العام نحو الهدوء النفسي، ولو على حساب الكثير من الثوابت الاجتماعية التي نحرص جميعاً بلا شك عليها، ولكن المشاهد قد يغيب عن ذهنه في لحظة التنويم المغناطيسي العاطفي أمام المسلسلات المدبلجة أنه يمتحن أعرافه الثابتة وأسسه الأخلاقية، ويعرضها من حيث لا يدري لاحتمالات التخلي عنها في لحظة ضعف أو تمرد، وهو أشد ما يخشى في صفوف الشباب والمراهقين. ولا نخدع أنفسنا بزعمنا أن هويتنا أصلب من أن تنال منها مجرّد مسلسلات، لأن الواقع النفسي التربوي يؤكد أن استمرار العزف على هذه الأوتار، لاسيما في عقليات الشباب الغضة، كفيل بأن يهز ثقتها في الكثير من المعتقدات الاجتماعية، وحين ذاك لن تنفع المحاضرات والدروس التربوية. والمسألة التي لا بد من وضع النقاط عليها في هذا الشأن تتعلق بغياب السياسات الإعلامية المتكاملة في نوافذ البث الإعلامي والدرامي، وأن تخضع عملية اختيار المسلسلات أو الدراما المعروضة ليس لمعيار الربح والخسارة، والمردود الإعلاني التجاري فقط، وهو ما لا يمكننا غض الطرف عنه لأن المقصد المادي والربح والتجارة لا يمكن تجاهلها في المحطات الفضائية وإلا كانت عبثاً وعبئاً على أصحابها، إلا أننا نأمل بأن يكون هناك رؤية ناضجة لدى القائمين على تلك المؤسسات، وأن يوازنوا بصدق بين المكاسب المادية والخسائر الاجتماعية، لاسيما وهم جزء من هذه المنظومة القيمية التي نحملها جميعاً. وعلى الطرف الآخر، وإذا كنا لا نقوى على كبح جماح هذا النوع من المسلسلات المدبلجة، فإننا نملك أن ندعو الناس إلى مراجعة أساسيات العلاقة مع التراث والهوية والمبادئ، في زمن تتم فيه محاولة عولمة كل شيء حتى الثقافة، وتسطيح الكثير من السلوكيات والأخلاقيات التراثية التي تحمل في باطنها أوليات الهوية الوطنية الأصيلة والسخرية منها وكأنها عبء على الإنسان وليست رقياً فيه. وهذا الدور لا بد أن تلعبه المؤسسات الإعلامية والتربوية على اختلاف منابرها، بأن تعيد ثقة الشباب بمجتمعاتهم، واستخلاص الحلول المتناسبة مع واقعهم لا أن يكون استيراد الحلول الخارجية لمشكلاتنا الداخلية كما نستورد السيارة أو زجاجة العطر. وعلى الرغم من كثرة أصوات العديد من التربويين الإعلاميين الذي يرون في هذه الظاهرة الفنية الجديدة هزة أخلاقية قاسية وضعت على المحك ثقافتنا أمام محك التغيير، إلا أن ثقتنا تظل في مجتمعنا القادر على التعاطي الناضج مع هذه الدراما ووضعها في سياقها الزماني والمكاني بعيداً عن الإسقاطات المجحفة على مجتمعاتنا، فما كل ما نعيشه قاتم، ولا كل ما نراه منير ومشرق، ولا بد علينا أن نمتلك زمام الحكمة الثقافية بأن نفرق بجرأة بين الواقع والخيال، ونحسن النهوض بأنفسنا وبتجاربنا الخاصة وحلولنا المبتكرة من بيئتنا بعيداً عن النسخ المجتمعي الجامد لحلول وحياة الآخرين الخالي من الهوية والثوابت الأخلاقية. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية