لم أندهش عندما سئل الروائي المصري العالمي نجيب محفوظ عن أكثر الكتب التي تأثر بها في حياته فأجاب بأنه كتاب «تربية سلامة موسي».. لأنه كتاب فريد ليس فقط لأنه يؤرخ في شفافية ونقاء لحياة «عقل» مصري نادر ولكن أيضاً لأنه يشتمل -ضمن ما يشتمل- علي خريطة نجاح لأي شاب يريد أن يجد لنفسه مكانا تحت شمس الفكر والادب والابداع.. والانصاف يقضي أن تقول بأننا أمام هذا المفكر الكبير سلامة موسي نجد أنفسنا أمام إحدي قلاع الفكر المصري وينابيعه التي لا تنضب. وفي ظني أن التاريخ المصري المعاصر لن تتكرر فيه هذه العبقرية التي تجسدت في شخص وعقل وروح سلامة موسي.. ولن نصادف في يوم من الأيام شاباً يبيع كل ما ورثه عن أهله من اطيان ومزروعات وأراض وعقارات لكي ينفق علي نفسه في رحلة البحث عن المعرفة في بلاد الشمال وإذا علمنا أن ما فعله سلامة موسي كان يراه البعض في هذا الزمان جنوناً وعدم إدراك.. لأن العقارات كانت تحتل مكانة مقدسة.. والأسر الاقطاعية كانت تعتز كثيراً بما لديها لأن هذه الملكية هي التي كانت تحقق لها التميز الاجتماعي وتضمن لها الحظوة والمكانة والتأثير ولذلك عندما يقدم سلامة موسي علي بيع كل ذلك من أجل أن يثقف نفسه ويحقق «علوا» في دنيا الفكر والكتابة فهذا شيء نادر الحدوث. الشيء الآخر الذي تميز به هذا المفكر هو احساسه بالمواطنة في أسمي صورها فمصر الوطن «ارضا وسماء ونيلاً» كانت محفورة في وجدانه.. حملها في كل الأماكن وتغني بها في غربته التي ساح فيها في دول أوروبا الغربية.. وخالط شعوب العالم معتزاً بمصر الوطن الأم. والأهم من ذلك أنه كان يعرف جيداً ماذا يريد لنفسه ولوطنه ولذلك كان مولعاً بكل جديد يراه أو يقرؤه في دنيا الابداع والفكر والحياة المعاصرة.. فانكب علي ترجمة ماظنه مهما ويمثل اضافة للعقل المصري ولاحظ الكثيرون أنه ينحاز دائماً للأفكار الجديدة وكان يكتب عنها في شوق جارف ويتمني لو يتعاطي معها أبناء وطنه ليخلعوا عن أنفسهم ثياب الجمود والتخلف. نعم كان سلامة موسي يري أن مصر ينبغي لها أن تكون في أعلي عليين لكن هذه المكانة لن تتحقق لها إلا إذا نفضت عن نفسها وأجيالها شباباً وشيوخاً تراب السكينة والهدوء والخمول.. لقد كان الرجل مفكراً ثورياً يتعطش طوال الوقت للجديد أياً كانت نتائجه. وأذكر أنني في وقت مبكر كان ذلك في اوائل ثمانينيات القرن الماضي زاملت شاباً لبنانيا كان عاشقاً لسلامة موسي وأعد عنه أطروحة للدكتوراة في جامعة السوربون اذكر إذا لم تخني الذاكرة أن عنوانها هو: التقليد عند سلامة موسي.. والتقليد الذي كان يعنيه الباحث اللبناني هو تقليد كل ما هو جديد ومبتكر، وتحدث عن قيام سلامة بالترجمة ونقل الافكار الشيوعية والغابية، والسوبرمان، وتحرير المرأة وشروط النهضة وكلها أفكار أحدثت ثورات اجتماعية وسياسية في بلدان كثيرة من العالم.. ولأن «سلامة» كان يريد أن تتنفس بلده «مصر» هواء جديداً، وتعيش حياة طموحة ووثابة، فكان يري أن خلاص مصر من أزماتها ودورانها في فلك التقدم لن يأتي من طريق آخر غير هذا الطريق: العلم والمعرفة، وتبني بل «وتقليد» الأفكار المستحدثة. ولا أنسي ما كتبه سلامة موسي عن اتقانه لأكثر من لغة أجنبية مؤمناً بأن لغة جديدة تعني انسانا جديداً باعتبار أن اللغة هي وعاء الفكر وبالتالي فاتقان لغة يعني العبور لمضامين وافكار وابداعات ورؤي جديدة ستضيف بالقطع للناطق الجديد بهذه اللغة وروي في كتابه -تربية سلامة موسي- أنه هبط علي أسرة فرنسية في مدن الشمال الفرنسي وخالط أفرادها واقام معهم فترة ليست بالقصيرة وكان يدرب نفسه علي اللغة من خلال المناقشات والحوارات التي كان ينسجها معهم علي موائد الطعام وفي صالونات الشاي والقهوة. ويؤكد الرجل عبر خبرته في تعلم واكتساب اللغات الأوروبية أن اللغة روح بالأساس وعشق هذه الروح هو البداية الصحيحة للدخول إلي عالم هذه اللغة. ولقد أخلص سلامة موسي لموهبته الأدبية والفكرية، ووضع عشرات الكتب وانشأ أكثر من مطبعة واصدر عدة صحف ومطبوعات بهدف نشر افكاره، وافكار معاصريه من الادباء والمفكرين. وارتفعت به الأيام في أوقات كثيرة فأصبح رئيساً للتحرير، وكان يملك الصحف ويكتب فيها ويجلس في مكاتب فخمة وتدر عليه مطبوعاته دخلاً وفيراً لكن في الوقت نفسه مر الرجل بأوقات عصيبة فقد فيها معظم أو كل ما كان يملكه من مطبوعات ومطابع ومجلات وذهبت عنه ثروته وتقدم به العمر.. لكنه في كل هذه الأحوال لم يفقد شيئين: حبه وشغفه بمصر الوطن وكذلك تعلقه بالكلمة المكتوبة فضلاً عن ثورته وطموحاته التي لم تغادره لحظة واحدة وايمانه بأن «الجديد» افضل من «القديم» والحركة اجدي من السكون والتقدم والتفاؤل أفضل من التخلف والتشاؤم وخرج من حياته العريضة بدروس جادة ومفيدة له ولمن يريد أن يتأمل شريط حياة هذه القامة الفكرية الكبيرة ومنها أن الإنسان هو الذي يصنع مستقبله وأن العلم هو القاطرة التي تجر الإنسان إلي حياة أفضل.. وأن المكان لا يصنع المكانة وأن الوظيفة وان ارتفع قدرها لا تخلد إنساناً وإنما الشخص بفكره وعقله هو الذي يصنع المجد لنفسه ويضيف إلي بلده. يروي ابنه رؤوف سلامة موسي في كتابه الرائع سلامة موسي ابي أن والده ظل يكتب حتي اللحظة الأخيرة من عمره وكان يستقيظ مبكراً ويحمل اوراقه ويذهب إلي الجريدة التي كان يكتب فيها انذاك.. ويقول إنه لم يكن له مكتب خاص به! ولذلك كان يذهب في الصباح الباكر ليجلس في مكتب أحد الصحفيين الشبان الذين لم يكونوا يذهبون إلي العمل مبكراً.. ويظل يكتب ويكتب ويعود إلي بعض المراجع للتوثيق. وحدث أكثر من مرة أن استغرقته الافكار والكتابة حتي ادركه صاحب المكتب الذي كان يشعر بالخجل من هذا المفكر الكبير الذي يدأب علي الذهاب إلي الجريدة مبكراً.. وعندما التفت سلامة موسي نحوه وعرف أنه ربما أخذ من الوقت أكثر مما هو مسموح له.. هرع إلي أوراقه يجمعها راحلاً من المكان فإذا بالصحفي الشاب يتجه إليه راجيا اياه أن يواصل الكتابة.. فهو ليس بحاجة إلي المكتب.. وكانت المفاجأة أن سلامة موسي أصرّ علي أن يترك المكان معتذراً عن الوقت الاضافي الذي أخذه دون أن يدري.. فلقد كانت الكتابة تشغله والافكار تنهمر علي قلمه. وأقسم الصحفي الشاب للكاتب الكبير سلامة موسي أنه سوف يفاخر الناس أجمعين بمكتبه الذي جلس عليه سلامة موسي وكتب أفكاراً وملاحظات ومقالات هي في النهاية اضافة حقيقية للفكر المصري المعاصر تذكرت هذه الواقعة بشأن هذه القامة المصرية السامقة في سماء الفكر كما تذكرت ما كان يقوله دائماً لتلاميذه ويمارسه فعلاً وهو أن المكان لا يصنع المكانة.. وكلنا يعلم أن عشرات بل مئات يجلسون في مقاعد فارهة ويضعون أمام اسمائهم ألقاباً ما انزل الله بها من سلطان لكنهم اختفوا بمجرد انتقالهم من المقاعد بينما بقي مفكرون امثال سلامة موسي تلمع اسماؤهم وتضيء كالقناديل دون أن يسأل أحد هل يجلسون في مقاعد وثيرة أم لا يجلسون. سلامة موسي هذا المفكر الغيور علي مصر الثائر فكرا والمحب لكل البشر ورائد التنوير والمولع بالجديد في الفكر والادب والابداع هو صاحب ذكري عطرة ما احوجنا إلي استدعائها ليعيش «فينا» و«معنا». ---------- بقلم / د. سعيد اللاوندي