كل حوادث الموت غرقاً أو عطشاً فى صحراء قاحلة، لم تثنهم عن عزمهم للهروب من مصر، شباب فى عمر الزهور تركوا ديارهم وودعوا أسرهم.. راحوا يبحثون عن فرصة هجرة حتى لو كان ثمنها الموت، يأتون من محافظات وقرى معروفة بالاسم، منتشرة فى الوجهين القبلى والبحرى على السواء، وجهتهم واحدة هجرة بلا عودة حتى لو كانت إلى الموت نفسه، المهم الخروج من هذا البلد الذى لم يوفر لهم المستقبل الآمن، يستدينون هم وأسرهم لدفع تكلفة السفر التى تتراوح بين 30 و70 ألف جنيه. مافيا الهجرة غير الشرعية تتلقفهم، أطفالاً وشباباً يروحون ضحية طمع هؤلاء السماسرة الذين يقومون بتهريبهم براً إلى ليبيا حيث ينتظرهم الموت فى كل مكان، أو بحرا إلى دول اوروبا حيث ينتظرهم الموت غرقا، أو يلقى القبض عليهم ويتم ترحيلهم. والأخطر من ذلك أن منهم من يهربون إلى أحضان العدو التاريخى، حيث يسافر بعضهم للعمل فى اسرائيل، ورغم كل المخاطر فالجميع يفضل السفر على البقاء فى بلد لا يحنو عليه فيها أحد، فلا عمل ولا مستقبل والفقر والأمراض والبطالة تتربص بالجميع. خريطة محافظات الهجرة غير الشرعية معروفة للجميع، الفيوم، المنيا، بنى سويف، أسيوط، الدقهلية، الشرقية، الغربية، البحيرةوكفر الشيخ. فكل محافظة من هذه المحافظات بها عدد من «مراكز تصدير» شبابنا للموت. عصابات معروفة مكونة من سماسرة يقومون بتجميع الشباب الحالمين بالسفر للخارج، ويحصلون مقابل ذلك على مبالغ تتراوح بين 30 و70 ألف جنيه حسب البلد الذى سيتوجه لها الشاب، هؤلاء السماسرة يقومون بتجميع الشباب فى سيارات نقل ويقومون بتغطيتها، ثم يتم نقلهم إلى مخازن على الساحل الشمالى الغربى يعرفها الشباب باسم الإسكندرية، رغم أنها ليست مدينة الإسكندرية أو يخرجون فى مراكب صيد عبر سواحل كفر الشيخ حيث يتم تسليمهم لمراكب أخرى فى عرض البحر لنقلهم للساحل الأوروبى. الرحلة دائماً محفوفة بالمخاطر؛ إذ غالباً ما تتعرض هذه المراكب للغرق نتيجة حمولتها الزائدة، حتى عند وصولها لشواطئ أوروبا غالباً ما يلقى القبض على من فيها ويتم ترحيلهم ليضيع الحلم ومعه تحويشة عمر الأسرة. وسرعان ما تتحول إلى أسرة كانت تحلم بالثراء إلى أسرة مدينة بآلاف الجنيهات!! وتلجأ بعض الأسر إلى بيع كل ما تملك لسداد تكلفة رحلة الموت. وترجع ظاهرة الهجرة غير الشرعية وفقا للدراسة التى أجرتها اللجنة التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية بوزارة الخارجية العام الماضى بالتعاون مع المجلس القومى لحقوق الانسان، والمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، إلى مطلع الألفية الحالية حينما بدأ التدوين الرسمى للهجرة غير الشرعية عام 2001 بعد أن رصدت الإدارة العامة لمباحث الاموال العامة هجرة أعداد كبيرة من الشباب بطرق غير شرعية بدأت ب649 شاباً، وازداد العدد تدريجيا كل عام ليصل إلى 5102 شاب عام 2007.. وهذا هو العدد الذى تم ترحيله من دول ليبيا وايطاليا ومالطا واليونان، فى حين أن الشباب الذين تمكنوا من البقاء فى الدول التى هربوا إليها أصبحوا أكبر عناصر الجذب والاغراء لغيرهم. فالزائر لأى قرية من هذه القرى سيجد الفقر هو عنوانها الأصلى ما عدا بعض البيوت الفارهة التى بناها هؤلاء الشباب المهاجرون إلى الخارج، ومنهم من اشترى أراضى زراعية وأراضى بناء فى قريته، ونجح فى نقل أسرته من دائرة الفقر إلى الغنى، وهو ما أغرى غيره من شباب القرية باتباع نفس الأسلوب والسفر إلى الخارج. ومع ازدياد حالة البلاد سوءاً فى سنوات ما بعد الثورة زادت رغبة الشباب فى السفر إلى الخارج، ورغم ازدياد المخاطر وغرق العديد من المراكب التى يستقلها الشباب فى رحلاتهم، تنبهت الدولة لهذه الظاهرة.. لكن حربها توقفت عند انشاء لجنة تنسيقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية اكتفت برصد أسبابها فقط دون وضع حلول جذرية. ومع تفاقم ظاهرة البطالة لم يعد أمام الشباب سوى المخاطرة بأعمارهم أملاً فى الوصول إلى أوروبا وتحقيق حلم الثراء. والسؤال الذى يطرح نفسه: «لماذا تعتبر هذه المحافظات بعينها مراكز تصدير للشباب فى رحلات الموت؟ الواقع يؤكد أن الفقر والبطالة هما الدافع الأول وراء انتشار هذه الظاهرة. كما أكدت الدراسات أن الأسباب الاقتصادية تأتى فى المركز الأول، إذ أشار عدد كبير من أفراد عينة الدراسة إلى أن عدم كفاية الدخل والبطالة والرغبة فى رفع مستوى المعيشة وتوفير المال اللازم للزواج، بالإضافة إلى انتشار ثقافة الهجرة غير الشرعية فى القرى فضلاً عن تشجيع الأسرة لأبنائها على الهجرة لرفع مستوى معيشة الأسرة، كما كشفت الدراسات عن سبب آخر للهجرة وهو وسائل الإعلام وتركيزها على الرفاهية التى تتمتع بها المجتمعات الأجنبية، والتركيز على النماذج التى حققت النجاح بالخارج، بالإضافة إلى التقليد والرغبة فى التشبه بالآخرين من أبناء الأسر الثرية الذين سافروا للخارج.. كل هذه الأسباب أدت إلى زيادة رغبة الشباب فى السفر للخارج ومع قلة فرص الهجرة الشرعية لم يجدوا أمامهم سوى الهجرة غير الشرعية سبيلا لتحقيق حلم الثراء والحصول على احترام اهالى القرية عند عودتهم. وأبرزت الدراسة، السمات الاجتماعية والاقتصادية للمحافظات المصدرة للهجرة غير الشرعية، فكشفت أن الأنشطة الاقتصادية لمحافظات الوجه البحرى تتمثل فى الزراعة والصيد وصناعة السفن. أما محافظات قبلى فيعمل سكانها بالزراعة وتربية الحيوانات والسياحة، وتتميز هذه المحافظات بقلة المرافق باستثناء الكهرباء، ونقص الخدمات الصحية بشكل عام سوى وحدة صحية لا يعتمد عليها، بالإضافة إلى نقص الأدوية والعنصر البشرى والمستلزمات الطبية فى المستشفيات العامة. كما تتميز هذه المحافظات بانهيار شبكة الطرق وعدم توفر الخدمات التثقيفية والترفيهية كمراكز الشباب وقصور الثقافة والمكتبات العامة. أما التعليم، فرغم انتشار المدارس الابتدائية فى هذه القرى إلا أنها تفتقر جميعا للمدارس الثانوية.. وهذه الأحوال دفعت معظم أبناء هذه القرى للهجرة، حيث بدأت الفكرة منذ سبعينات القرن الماضى بالسفر للدول العربية، وبعد اتجاه العديد من هذه الدول لإغلاق أبوابها أمام المصريين لم يجدوا أمامهم بدا من الهجرة غير الشرعية، التى أصبحت تستقطب الشباب فى الفئة العمرية من 21 إلى 35 عاماً. ومع قيام الدول الأوروبية بترحيل المهاجرين غير الشرعيين وجدت جماعات التهريب ضالتها فى الأطفال من 13 إلى 18 عاماً، إذ يمنع القانون الايطالى ترحيل الأطفال القصر، ومن ثم بدأ التركيز على تهريب الأطفال فى هذه السن فى رحلات الهجرة غير الشرعية. ورغم كل المخاطر التى تحيط بهم فى هذه الرحلات إلا أن الإقبال عليها فى تزايد مستمر، لتسحب بذلك البساط من تحت أقدام اليونان وقبرص التى كانت دائما قبلة لهؤلاء المهاجرين غير الشرعيين. الظاهرة اللافتة للنظر أن جماعات الهجرة غير الشرعية للفئة العمرية أكبر من 18 عاماً، بدأت تتوجه ناحية ليبيا، فرغم عصابات القتل التى تحكمها، ورغم خطر الموت فى صحرائها القاحلة، التى راح ضحيتها 48 شابا مؤخرا من محافظاتالفيوم وبنى سويف، إلا أن الشباب يتوجه إليها، متحدين الموت بحثا عن فرصة عمل ثمنها الموت المحتوم.