أخفى مرضه بالقلب ليتفرغ لرعاية أمى عاش باقى عمره يشعر بأن «حليم» عايش بيننا تألم لأجل «بليغ» مرتين.. الأولى عندما ترك مصر.. والثانية حين مات - وخدتنى من إيدى .. يا حبيبى ومشينا - تحت القمر غنينا .. وسهرنا وحكينا - وف عز الكلام .. سكت الكلام .. وأتارينى - ماسك الهوى بإيديا .. ماسك الهوى - وآه .. من الهوى يا حبيبى .. آه .. من الهوى. - آلو.. مساء الخير يا بليغ. - يرد بليغ حمدى: أهلاً يا حليم.. خير! ماذا حدث؟ هل تشعر بتعب؟ هل الدواء بجوارك؟ ألا يوجد أحد عندك بالمنزل؟ - اهدأ يا صديقى قليلاً.. صحتى جيدة، لا تقلق! - يقاطع بليغ.. إذن ما الأمر؟.. ولماذا تطلبنى فى هذا التوقيت على غير العادة؟ - سكت حليم قليلاً.. ثم قال: أريد منك أن تذهب إلى محمد حمزة وتأتى به فى أسرع وقت. - رد بليغ: حاضر.. فى الصباح سأذهب إليه فى مجلة «روزاليوسف» ونأتى معاً. - سكت حليم قليلاً، ثم قال وفى صوته نبرة حزن واضحة: لن أنتظر للصباح.. الليلة يا بليغ.. أنا فى الانتظار.. ثم أغلق الخط! فى الطريق إلى شقة حليم فى حى الزمالك على نيل القاهرة. محمد حمزة يسأل: ماذا يريد حليم؟ لا أعرف يا حمزة! لكن الذى شعرت به، هو حالة الحزن المسيطرة على صوته. عموماً دقائق وسنكون هناك ونعرف ما لم نعرفه. بعد دقائق كان الثلاثى (حليم وبليغ وحمزة) وجهاً لوجه. خير يا حليم؟ هكذا بدأ بليغ كلامه، اعتدل حليم فى جلسته، وشرد بذهنه قليلاً، ثم وجه كلامه ل«حمزة» قائلاً: ذات يوم تعرفت على فتاة لبنانية شديدة الجمال والرقة والعذوبة، وشعرت تجاهها بالحب، وكنت قررت بينى وبين نفسى الزواج منها! - هنا أطفأ بليغ حمدى السيجارة التى فى يده وقال بتعجب: ماذا قررت يا حليم؟ عفواً، فأنا لم أسمع هذه الجملة جيداً. لم يلتفت حليم له، وواصل كلامه ل«حمزة» الذى كشفت ملامح وجهه عن الكثير من العجب.. وقال له: وفى الوقت الذى كنت قد قررت الزواج منها، جاءنى منها برقية -عبارة عن دعوة- ليوم زفافها على ابن عمها فى لبنان. كان يقول ذلك والدموع فى عينيه، و«حمزة» ينظر فى دهشة.. وبليغ ينظر فى حيرة.. بعد لحظات هرب «حمزة» من دهشته وسأله: وما الذى تريده يا حليم؟ قال له: أن تكتب أغنية تعبر عن قصتى الحزينة تلك ليقوم بليغ بتلحينها. بعد دقائق حمل «حمزة» فنجان قهوته ودخل إلى حجرة قريبة وأمسك بالقلم وكتب: - وفضلت مستنى بأمانى. - ومالى البيت بالورد. - بالشوق.. بالحب.. بالأغانى. - يا حبيبى.. بالأغانى. ثم أكمل حمزة الكتابة حتى وصل إلى قوله: - رميت الورد.. طفيت الشمع.. يا حبيبى - والغنوة الحلوة.. ملاها الدمع يا حبيبى - وفى عز الأمان.. ضاع منى الأمان.. وأتارينى - ماسك الهوى.. بإيديا.. ماسك الهوا - زى الهوا يا حبيبى.. زى الهوا - رائع.. كان هذا تعليق حليم على الكلمات.. وما رأيك يا بليغ؟ رد بنفس المعنى.. وليبدأ بسرعة فى تلحين أغنية «زى الهوا». بعض المصادر تؤكد، أن قصة الحب تلك التى تحدث عنها العندليب حقيقية. والبعض الآخر يقول إنها «وهمية» نسج خيوطها حتى يدفع صديقيه - بدافع مشاطرته عاطفياً- أن يخرجا ما بداخلهما من إبداع.. كانت نتيجته أغنية رائعة غناها العندليب لكل حبيب عاش معتقداً أنه أحكم قبضته على حب حبيبه، ليكتشف فى نهاية الأمر.. أنه «ماسك الهوا بإيده.. هذا هو الحب الذى جعله الثلاثى الإبداعى «زى الهوا»! كان هذا عام 1970 عندما وقعت هذه الحكاية التى أنتجت لنا أغنية «زى الهوا»، لكن قبلها بسنوات وبالتحديد فى عام 1950، كان هناك طالب فى المدرسة الخديوية بقلب القاهرة فى السنة النهائية من إتمام المرحلة الثانوية «كان يطلق عليها وقتها البكالوريا» يكتب الشعر، وكان متيماً وعاشقاً لشعر المتنبى ويكتب الأغانى. هذا الطالب هو «محمد حمزة» الذى ترك مدرسته ذات صباح، رغم أن الامتحانات كنت على الأبواب واقترب موعدها، وترجل فى وسط القاهرة من مدرسته حتى وصل منطقة السيدة زينب، وهناك جلس على مقهى «التجارة». وكانت محطة من محطات الملحنين والمطربين يجلسون عليها كل ليلة. وانتظر على المقهى حتى بدأ يتوافد هؤلاء الفنانون. وبعد ساعة أو اثنتين جاء للمقهى ملحن مغمور اسمه «حسن أبوالنجا». اقترب منه محمد حمزة وعرض عليه، أو بمعنى أدق، طلب منه أن يعرض عليه ما يكتبه من أغانٍ. لم ينتظره الملحن حتى ينهى كلامه.. لكن قال له: اذهب وذاكر دروسك أفضل. ولملم «حمزة» كلماته، وعاد من حيث جاء.. أو كان يستعد لذلك، رغم ثقته فى نفسه، وإدراكه لموهبته وقيمة ما يكتبه، ورغبته فى أن يصل هذا إلى الجمهور. هذا الحوار المحبط الذى دار بينه وبين الملحن، كان يسمعه عن قرب المطرب الشعبى «شفيق جلال». وفى اللحظة التى كان الشاب يستعد لمغادرة المقهى، أوقفه واستمع إلى أغانيه، وأعجب بها جداً ثم قال له: أنت تكتب بصورة جديدة وجيدة، لكن حتى ترى هذه الأعمال النور، عليك أن تذهب إلى لجنة متخصصة فى الإذاعة. وبالفعل عمل الشاب وقتها بالنصيحة ومن أبواب الإذاعة عرفت كلماته طريقها إلى الجمهور. فى سلسلة حوارات.. «أبى الذى لا يعرفه أحد» ذهبت إلى عالم الشاعر الموهوب «محمد حمزة» وعالمه الإبداعى الساحر فى المعنى والكلمة. اتصلت بابنته دينا وهى تعمل مخرجة. اتفقنا على اللقاء. فى الموعد تحركت من منطقة الدقى فى طريقى إلى شارع أحمد عرابى بمنطقة المهندسين، فى هذا الشارع يسكن الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى. وبالقرب منه منزل الراحل عبدالرحمن الأبنودى، فالشارع أعرفه جيداً، وصلت إلى باب العمارة وصعدت درجات السلم. حارس العقار كان يجلس وبجواره «راديو» صغير، ويأتى منه صوت الراحل محمد العزبى وهو يغنى: - قالوا عن بهية ملهاش عزيز ولا حبيب -عيونها تقتل ملهاش دوا ولا طبيب صحبنى حتى وصلت إلى شقة الأستاذ محمد حمزة. بعدد دقائق كنت أجلس فى مكتبه بعدما استقبلتنى الابنة دينا. وقبل بداية الحوار لفت نظرى صورة معلقة على جدران الحائط تضم الثلاثى (حليم وبليغ وحمزة) وصورة عائلية للأسرة. فى البداية قلت للابنة: ما الذى لا نعرفه عن الشاعر مرهف المشاعر محمد حمزة؟ نظرت إلى صورة أبيها ثم قالت: كان إنساناً بمعنى الكلمة، يجمع كل صفات الإنسانية فى شخصه، ثم قالت: ما الذى تريده أو تحب وجوده فى الإنسان؟ ثم ردت هى علىَّ السؤال قائلة: نريد من الإنسان أن يكون رقيقاً، هادئاً، حلو المعشر، مرهف المشاعر والأحاسيس لا يعلو صوته، ولا يتصارع على أشياء زائلة، ولا يسعى إلى مكاسب قد تجعله يقتل الإنسان بداخله. أليس هذا ما نتمناه أو نحبه فى الإنسان؟ قلت: نعم! قالت: هكذا كان أبى.. لا تشعر بوجوده من فرط هدوئه وتواضعه، وحرصه على ألا يكون سبباً فى إزعاج أو إرهاق الآخرين، نحن كبرنا ولا نعرف من هو ولا نعرف أنه شاعر يكتب الأغانى التى يتغنى بها الناس فى الشارع. قلت لها ولماذا؟ قالت: لأنه لم يكن يتكلم عن نفسه، ولا يحب أن يمجد أو يعظم فيما يكتبه، لكن عندما كبرنا، بدأنا نحن الذين نسأله عن أغنيته كذا أو عن المطرب أو المطربة الفلانية، وحتى عندما كان يرد.. كان يرد ببساطة شديدة وبجمل قليلة. - اسمه محمد حمزة، ولد فى 20 يوليو 1940، اشتغل بالصحافة، حيث عمل محرراً فى مجلة «روزاليوسف»، وكتب فى أغلب الصحف المصرية. فى عام 1963 بدأ مشوار كتابة الأغانى، عندما قدم أغنية للراحلة فايزة أحمد بعنوان «أؤمر يا قمر»، ثم توالت بعدها أعماله مع كبار المطربين، فقدم مع عبدالحليم وبليغ حمدى عشرات الروائع الغنائية، منها «موعود» و«نبتدى منين الحكاية» و«أى دمعة حزن لا»، و«حاول تفتكرنى» و«سواح» و«جانا الهوا» و«زى الهوا» و«مداح القمر»، وكتب للمطربات وردة ونجاة وشادية وشريفة فاضل، وللمطرب محمد رشدى، وكل نجوم الطرب فى مصر. وتصطبغ كلماته بصبغة رومانسية واضحة، رددها -ومازال- يرددها كل العشاق فى مصر والوطن العربى. تزوج من الإعلامية فاطمة مختار، وله من الأبناء ثلاثة (أحمد ودينا ودعاء) وقدم ما يقرب من 1800 أغنية منها فقط 37 أغنية من أجمل وأشهر أغانى العندليب. - ورجعنا الطريق وحدينا - من غير كلمة وداع - كل واحد فينا حس - أن أمله الحلو ضاع - ضيعنا الحبايب .. وفارقنا الحبايب - ووصلنا النهاية .. من قبل النهاية .. يا عينى ومن أول الطريق الذى بدأ وتحرك فيه شاعرنا الجميل عدت إلى وسط الطريق عند المطربة نجاة وكلماته فى أغنيتها الرائعة «فى وسط الطريق». «لو الزمن عطل فراقنا دقيقة واحدة كان يجرى إيه» وقلت للابنة: هل كان يشعر أن الزمن لم يعطِه ما يستحقه من شهرة ونجاح؟ ردت وهى تقدم لى فنجان قهوة: بالعكس أبى كان يرى أنه حقق ما كان يجب تحقيقه.. مات وهو راضٍ عن مشواره وإنتاجه، قد يكون هناك من هو أقل منه موهبة وإنتاجاً وحصل على مكاسب مادية أو إعلامية.. هذا وارد ويحدث فى أى مجال، لكن أبى كان لا تعنيه هذه الأمور، ويعتبرها أموراً شكلية ولا تبقى فى الذاكرة. وهو بطبعه لا يحب الكلام، إلا إذا كان كلامه له ضرورة، ورغم أنه كان صحفياً، ويعمل فى مؤسسات كبيرة ويكتب لها، فإنه لم يحاول أن يستغل ذلك في أن يستفيد أو يعيد إنتاجه الغنائى، ولو بحثت فى الأرشيف الصحفى أو التليفزيونى ستجده أقل أبناء جيله فى الوجود -باستثناء مقالاته- لأنه كان لا يحب أن يقال إنه يستغل عمله الصحفى فى خدمة إنتاجه الغنائى وهو لم يكن فى حاجة لذلك، فهو من صغر سنه وكبار المطربين يغنون له. قلت لها: أعرف أنه ولد فى الصعيد.. فكيف جاء للقاهرة؟ قالت: ولد فى محافظة المنيا، ومنها انتقل مع والده إلى محافظة سوهاج، وهناك عاشت الأسرة فترة من الزمن، ثم -ربما بحثاً عن الرزق والعمل- غادرت الأسرة الصعيد، واستقرت فى القاهرة، قلت: وكيف تعرف على والدتك؟ قالت: كانت صحفية تحت التمرين معه فى روزاليوسف، ولعب الحب دوره بينهما وتزوجها ثم انتقلت والدتى للعمل فى التليفزيون، حيث عملت مذيعة. وللأسف ظلت سنوات تعالج من مرض القلب وكنا نسافر معها إلى لندن للعلاج، ورحلت فى عام 2007 قبل رحيل أبى ب3 سنوات. قلت إلى أى مدى تأثر أبوكِ برحيلها؟ قلت: كانت حب عمره ورفيقة دربه وأم أولاده، وبرحيلها حزن واشتد عليه الحزن.. وهذا الفقد جعل المرض يتسرب إلى جسده، ويبدو أنه كان مريضاً بالقلب، ونحن لا نعرف ولم نعرف إلا بعد رحيل أمى. قلت: وهل لم يكن يعرف هو بمرضه؟ قالت: ربما كان يشعر.. ولكن أظن أن - بينه وبين نفسه- كان يقول يكفى مريض واحد بالقلب فى الأسرة، وتحمل هو تعبه حتى نتفرغ ويتفرغ معنا لمرض أمى.. وما هى إلا ثلاث سنوات حتى رحل هو الآخر. قلت لها: كيف كانت علاقته بعبدالحليم وبليغ حمدى؟ ردت: كان يحب كل من عمل معه.. لكن تبقى علاقته بالعندليب وبليغ علاقة خاصة.. أبى حتى رحيله لم يكن مقتنعاً برحيل العندليب. عاش ما يقرب من 30 سنة بعد رحيله وهو يشعر أن عبدالحليم معنا.. ليس بصوته فقط ولا بروحه فقط، بل وبجسده أيضاً. كان حليم يعيش بداخله ولم يمت. أما بليغ فكان بالنسبة له حالة خاصة.. فهما معاً صنعا أو ساهما فى صناعة مجد الأغنية المصرية، بالإضافة إلى العلاقة الإنسانية التى جمعت بينهما. وأذكر عندما رحل بليغ ظل أبى يبكى أياماً طويلة حزناً عليه. قلت لها هل كان يحب الرئيس السادات؟ نحن اتفقنا أن شاعراً مرهف المشاعر مثله لا يكرهه أحد. قلت: أقصد أيهما كان أقرب إليه: الرئيس جمال عبدالناصر أم الرئيس السادات؟ قالت: أبى ابن المشروع الناصرى حتى وإن لم يكن ناصرياً.. لكن كان يرى عبدالناصر زعيماً. وحتى عندما حلت النكسة على مصر، كان يقول -وهذا قاله لنا- إنه مثل كل أبناء جيله كانوا يؤمنون بيوم النصر، وأن الهزيمة لن تستمر. وعندما مات ناصر وجاء السادات وانتصرنا فى حرب أكتوبر كتب أغنية «عاش اللى قال»: عاش اللي قال ..للرجال عدوا القناة عاش اللي حول صبرنا حرب ونضال عاش اللي قال يا مصرنا مفيش محال التى تغنى بها عبدالحليم. قلت لها أيامه الأخيرة.. كيف مرت عليه؟ قالت: بعد رحيل أمى بدأ المرض يتحكم فيه.. وبدأت مرحلة التحاليل والأشعات والمشاوير للأطباء.. وقبل رحيله ب3 أشهر استقر به الحال فى مستشفى بالمهندسين بعدما أصيب بنزيف بالمخ بخلاف مرض القلب ثم دخل فى غيبوبة.. ثم كان الرحيل، لكن قبل تدهور الحالة الصحية وأثناء وجوده فى المستشفى طلب منا إحضار «راديو» له.. وبالفعل خالفنا تعليمات المستشفى، وكان يضع الراديو بجواره ليستمع للأغانى، وكانت حالته النفسية تتحسن كثيراً وهو يستمع للأغانى، ذلك الفن الذى عاش من أجله وأعطاه حياته وعمره. وفى نهاية الرحلة مات محمد حمزة.. مات فى 18 يونيه 2010 بعدما ترك لكل حبيب يشعر بالحب ولكل حبيبة تشعر بالحب.. ترك لهم مضادات غرامية تقوى جهاز المشاعر بداخلهم كلما أسعدهم الحب. وكلما أشقاهم الحب، ترك الحياة والحب بعدما لخص مشوار حياته فى كلمات غناها العندليب منذ سنوات قال فيها: - مشيت وطالت خطوتى - والريح جريح فى سكتى - يا رحلة الآلام.. يا عمر بالأيام - ماشى الطريق من كام سنة - ماشى الطريق - تعب الطريق ما تعبت أنا - تعب الطريق.. .. وطريق الراحل محمد حمزة عند هذه النقطة انتهى، بعدما ترك لنا طرقاً كثيرة يسلكها العشاق بعشقهم.. والمحبون بحبهم.. وهذا هو دور الفنان فى الحياة.. أن يجعل من الحياة رحلة نواجه فيها الآلام ونحقق فيها الأحلام.