كان يظن لوقت طويل أنه يضع نفسه فى منطقة آمنة بعيدا عن معارك الأجنحة المتصارعة فى الحزب الحاكم.. فالرجل القوى أحاط نفسه بحواجز فولاذية تحميه من ضربات القوى الناعمة التى طالت كل رجال الرئيس القدامى على يد "الابن" واقتنصت من أدوارهم بينما فشلت فى النيل منه. إنه زكريا عزمى الذى يمارس دوره فى الخفاء وينفذ الأجندة السياسية خلف الأبواب المغلقة حتى تحول بمرور الوقت إلى الجسر الذى يعبر منه الجميع إلى الرئيس.. فهو الوحيد الذى يملك بين يديه مفاتيح قلبه وعقله وخزائن أسراره بل إن عزمى هو وسيلة اتصال الرئيس بالعالم الخارجى فهو عينه التى يرى بها فإذا ارتدى عزمى نظارة سوداء فالصورة قاتمة عند الرئيس وإذا تكلم انطلقت صافرات الإنذار.. باختصار: هو الذى يرسم للرئيس ملامح الصورة اليومية لأحوال البلد وأوضاع المواطن وهو أخطر الرجال حول الرئيس، حيث يلعب أهم الأدوار من خلف الستار فى المشهد السياسى. ويحاول عزمى أن يلعب دور الحاوى فى الحزب الوطنى ويسعى الى ملء الفراغ الموجود فى مجلس الشعب بعدما ورط أحمد عز النظام الحاكم وأسقط كل رموز المعارضة، فارتدى عزمى ثياب المعارض فى محاولة منه للإبقاء على المسافة الفاصلة بينه وبين المعارضة وليحافظ فى الوقت نفسه على ودها ليبقى بعيدا عن النقد وحتى تكتمل الصورة فى المجلس بعدما تحول الى مجلس منزوع المعارضة. نجح عزمى منذ مجيئه إلى ديوان رئيس الجمهورية فى أن يتحول إلى الشاطئ الذى ترسو عليه دائما سفن المعارضة وتتكسر عنده موجات الغضب من النظام وتحول إلى الركن الذى يجلس فيه داخل مجلس الشعب الى أهم ركن سياسى فمن خلاله تصل رسائل المعارضين والغاضبين الى الرئيس، ومن خلاله يحاول عزمى تنفيذ وصايا الرئيس اليومية وأوامره. رغم ان مضمون وظيفة عزمى الرئاسية يجعله فقط مسئولا عن شئون مؤسسة الرئاسة إلا أنه حقق طفرة كبيرة في المنصب مقارنة بمن سبقوه إلي حد أن الرئيس بات متمسكا بالرجل ولا يستطيع بسهولة الاستغناء عنه بل انه أجبر الجميع على ان يبقيه خارج الصراعات الحزبية فهو لا يملك أى طموح أكثر مما وصل إليه ويرتضى بالصورة التى يرسمها لنفسه. اشتهر عزمى ببراعته فى اختيار التعبيرات واللزمات التى يطلقها داخل مجلس الشعب كممثل بارع، وأصبحت ثمثل جزءا من تركيبة هذا الرجل فهو صاحب أفضل وأدق تعبير لحالة الفساد التى وصلت اليها المحليات عندما وصفه بأنه "للركب "وهو الذى يهاجم الوزراء بتعبيرات ساخرة كان اخرها التى وجهها الى وزير الصحة عندما انتقد لائحة المستشفيات الجديده قائلا "هو المريض هيدخل سيما ولا مستشفى".. تعبيرات استعراضية دأب عليها عزمى لتمرير مؤسسة الرئاسة بحكم كونه امينا لها ،إلى قلوب المواطنين، وربما لهذه الأسباب بقى بعيدا عن الهجمات التى تعرض لها الحرس القديم رغم انه يعتبر أحد أبرز ووجوههم.. لهذا لم يكن غريباً أن يتم استثناء منصبه كرئيس لديوان رئيس الجمهورية من سن الإحالة للتقاعد عبر قانون أقره مجلس الشعب حتي لا يغادر منصبه إلا بمغادرة مبارك شخصيا. عزمى أحد أهم اركان النظام السياسى الحالى وهو ضلع تستقر عليه خططه وسياساته حتى وان حاول ان يختفى خلف الدور المعارض الذى يرسمه لنفسه فان غموضه انكشف، فما يفعله هو نوع من الاستعراض السياسى المطلوب أحيانا لتجميل وجه رجل يعمل فى نظام قبيح وإلا فلماذا يرفض أن يمارس هذا الاستعراض في تصحيح الأخطاء المستمره للحزب الوطنى ولماذا يستعرض فقط على المغضوب عليهم من النظام. بدأ عزمى حياته العمليه ضابطاً بسلاح المدرعات بعد حصوله علي بكالوريوس العلوم العسكرية عام 1960 ثم انتقل إلي الحرس الجمهوري عام 1965 وهو العام الذي حصل خلاله أيضاً علي ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة ،وتمت ترقيته ليصبح قائداً لإحدي الكتائب المدرعة في الحرس الجمهوري للرئيس الراحل جمال عبدالناصر وعقب ترقيته حصل علي دبلوم العلوم الجنائية من كلية الحقوق عام 1970 ثم دبلوم القانون الدولي عام 1972 والدكتوراه في القانون الدولي العام. فى عام 1973 انتقل رئيساً للشئون السياسية بمكتب رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي ثم عضواً بسكرتارية الرئيس للمعلومات في العام نفسه وعام 1974 تم انتدابه مديراً لمكتب رئيس ديوان رئيس الجمهورية. وكان المقدم زكريا عزمى يعمل مديرا لمكتب حسن كامل كبير الأمناء برئاسة الجمهورية أيام الرئيس السادات وعندما تولى مبارك منصب نائب رئيس الجمهورية سرعان ما حدث تجاذب بين الشخصيتين وتقارب بينهما، وعندما تولى الرئيس مبارك الحكم عينه كبير الأمناء فى القصر الجمهورى وإلى الآن مازال زكريا عزمى يتمتع بثقة الرئيس الى الدرجة التى جعلته الوحيد من بين رجالاته الذى رافقه خلال رحله علاجه الأخيرة الى ألمانيا بل إنه الوحيد الذى كان يعلن أخباره الصحية على الرأى العام. بدأ عزمى صعوده السياسي منذ انضمامه للحزب الوطني عام 1978وبعدها بعام واحد تولي موقعه أميناً للحزب بمنطقة الزيتون وهو فى الوقت نفسه نائبا عنها ثم أصبح أميناً مساعداً للحزب في القاهرة في يناير عام 1987 وتم اختياره عضواً بالأمانة العامة للحزب في ديسمبر عام 1993، حتى استقر فى موقعه الحزبي الحالى كأمين مساعد للتنظيم والشئون المالية والإدارية. يبقى عزمى شاهدا فضلا عن تورطه فى كافة التحولات السياسية والحزبية فى عصر مبارك، بل وكثير من التحولات فى نفسية الرئيس ومنطقه لإدارة الأمور، ولو أنه أقدم على كتابة مذكراته -أو أجبر على إخراج محتوياتها- لكانت وثيقة اتهام متكاملة الأركان على عصر مبارك. وطبقا لرواية الدكتور أحمد يوسف ذ أستاذ العلوم السياسية - فإن هناك أسبابا عديدة يراها منطقية تدفع الرئيس مبارك إلى التمسك بهذا الرجل طيلة 30 عاما، فى مقدمتها خلفيته العسكرية والقانونية، وامتلاكه ذ فى السابق طبعا - علاقات منضبطة ومنطقية مع المعارضين، استطاع من خلالها طويلا توصيل رسائل إلى القوى السياسية والمعارضة كما أنه يوصل رسائل الرئيس بالطريقة التى يريدها فهو يوصلها بغضب إذا كان الرئيس غاضبا والعكس صحيح تماما. زكريا عزمى كان ذكيا بالدرجة التى جعلته يطلق عبارات هلامية يقترب من خلالها من المواطنين حتى يجبر مبارك على التمسك به على اعتبار أنه يمسك بجميع الخيوط فى يديه.. غير أن أخطر الأدوار السياسية التى لعبها عزمى هو أنه كان شريكا فى معظم القوانين "المشبوهة" التى قدمت كما أن هجومه المستمر على الوزراء أو بعض النواب او مشروعات القوانين انما هى فى الأساس رسائل خفية يحملها من الرئيس مبارك ولا يجرؤ أن يقوم بذلك من تلقاء نفسه فمثلا عندما هاجم الخصخصة واصفا البعض بأنهم "حرامية الخصخصة "كان الهجوم مجرد رسالة من مبارك الى عاطف عبيد، فعزمى هو سيف الرئيس الذى يقطع به رقبه من يريد فى المعارضة والحكم أيضا. غير أن ثمة مواقف عديدة تعرض لها الرجل كشفت عن حقيقة الدور الخفى الذى يقوم به فلا أحد ينسى المشهد الذي جرت وقائعه تحت قبة مجلس الشعب عام 2006 عندما رفض المجلس طلبا مقدما من21 عضوا بإحالته للمدعي الاشتراكي لصداقته بممدوح إسماعيل صاحب شركة السلام والعبارة الغارقة يومها قال فتحي سرور إن صداقته بممدوح اسماعيل لا يعد اتهاما له وأنه ليس مسئولا عن أعمال غيره.. لكن تكشف صداقته فيما بعد بنائب القمار ياسر صلاح أكدت على طبيعة العلاقات الخلفية بين رجل الرئيس القوى وأغلب رموز الفساد فى البلد. منير فخرى عبد النور - سكرتير عام الوفد ذ كان قد فجر مفاجأة من العيار الثقيل بتأكيده ان زكريا عزمى هو من امر بتسليم وفاء قسطنطين إلى البابا شنودة وهذا الاعتراف الذى سبب حرجا بالغا له وأدى الى اتهامه بالمسئولية عن حوادث العنف الطائفية، فرئيس ديوان رئيس الجمهورية يتدخل بشكل كبير فى إدارة الأزمات السياسية التى تعيشها مصر إلى الآن. وبتأكيدات بهى الدين حسن ذ رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ذ فإن 90٪ من مهام ووظائف زكريا عزمى يؤديها فى الظل، بينما يمارس النسبة الباقية فى البرلمان كما أنه يقوم بأداء أدوار خفية لصالح النظام ويتدخل فى العديد من القضايا المصيرية برأى يؤخذ به غالبا. حسن يسخر من دور المعارض الذى كان يؤديه زكريا عزمى فى الحياة الساسية لأنه ببساطة "لزوم الوجاهة والديكور السياسي وغير مقنع على الإطلاق" ويتساءل: كيف يهاجم وزراء مثلا فى حكومة الحزب الذى ينتمى إليه دون ان يكون مبارك نفسه على علم بذلك فهو مساعده وخطواته محسوبة عليه، إذ يبقى عصا مبارك المشهرة دائما فى وجوهنا.