تستدعي الذاكرة الشيخ الذهبي الذي اختطف وأعدم بغير حق، وتستدعي الحكم علي فرج فودة بالقتل الذي اهتم في حينه بقيم الدولة المدنية، ثم تستدعي الذاكرة الإرهابي الشاب محمد ناجي الذي ترك سكينة غائرة في عنق الشيخ الهرم، والكاتب الكبير، تستدعي الذاكرة حين كان نجيب محفوظ ما يزال في فترة النقاهة، وعقد مؤتمر المثقفين في عام 1994 فوجه له رسالة قال فيها: «فليجتمع المثقفون جميعاً حول مبدأ الحرية لأن الثقافة لا تكون إلا بالحرية، فلنترك جميع خلافاتنا جانباً ونتفق علي رفع راية الحرية عالية في وجه جميع أشكال العنف والعدوان». يخرجون الآن من حجر العمل السري، معتمدين علي شريعة صناديق الانتخاب بعد أن جيشت الناس ضد قيم التنوير وقيم الدولة المدنية. يخرج البعض ممن لم يقرأ لنجيب محفوظ صفحة واحدة ويأمر بتغطية التماثيل لأنها تشبه الأصنام، ويتهم أدب نجيب محفوظ بأنه يحض علي الرذيلة، ويدعو إلي الكفر والإلحاد فلا حول ولا قوة إلا بالله. أراه في هذا الانفجار الذي يغير الواقع وعبر حلمه الطويل بتغيير الثقافة ومغادرة المرحلة التي كانت تختلط فيها النهايات بالبدايات، وظل نجيب محفوظ طوال عمره كان خياره هو الانتماء إلي الإبداع، إلي الثورة وكانت أعماله الإبداعية إلي ذلك السعي الدؤوب في اكتشاف الواقع العربي والإسهام في تغيير البني القديمة. لقد ظل نجيب محفوظ عليه رحمة الله يؤمن بأن الثقافة حرية تبدأ ولا تنتهي إلا بتغيير الواقع، لذا سعي لاستحضار زمن يخصه، ومكان يشبه وبشر جسدت جماعته التي سعت في المكان والزمان لتعبر عن روح وطن قديم تليد. يقول د. جابر العصفوري في كتابه المهم: «نجيب محفوظ الرمز والقيمة»: نجيب محفوظ واحد من الكتاب الاستثنائيين الذين يقفون بحضورهم الإبداعي علامة حاسمة في تاريخ الكتابة الإبداعية، شأنه في ذلك شأن عظماء الكتاب الذين كتبوا بأقلامهم ما ترك آثاره العميقة غائرة في الوعي الإنساني علي امتداد عصوره وأماكنه. أجلس علي مقهي ريش، وعلي الجدار في الممر صورة له وحيداً يفتح الجريدة ويقرأ، هي صورة من زمن الستينيات حين كانت الكتابة تجريباً دائماً، وكنا نتحلق حوله، وكنا في حينه ننظر إليه باعتباره شيخاً للطريقة يهدر من بعيد صوت الميدان، وأسمع هتاف الشباب يطلبون التغيير والبداية الجديدة، وفي يقيني أن طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ويحيي حقي ونجيب محفوظ ومحمد عفيفي مطر، جميعهم هناك بين الشباب يصنعون المستقبل كما صنعوا الماضي من قبل. يخرج علينا صناع القمع والتخويف والرغبة في النيل من رجل أمضي حياته ضد التسلط السياسي والتطرف الديني والجحود، وقدم عبر مخيلة نافذة إلي أعماق الروح المصرية بالرمز والدلالة والمعني كل ما يعني تلك الروح. يعود عاشور إلي الحارة بعد اختفاء، يهزم حسونة السبع فتوة المظالم، واستباحة المحارم والتنكيل بالفقراء، يهزمه عاشور ويرمي به في الحارة فاقد الوعي والكرامة، وينفث في روح الحرافيش ويتجمع الأكثرية، ويلتف الحرافيش حول عاشور الناجي وتعود الفتونة رجل يحلم بالبناء لا بالهدم، وأوصي حرافيشه بشيئين، أن يدربوا أبناءهم علي الفتونة حتي لا تهن قوتهم يوماً فيتسلط عليهم وغد أو مغامر، وأن يتعايش كل واحد من حرفة، كأن ما جري في الميدان هو ما كتبه نجيب محفوظ أوائل الثمانينيات، وما تنبأ به وأمضي حياته يجيب عن أسئلته، أسئلة العدل والحرية، لا تكتمل الصورة إلا بالتعرف علي شيمة التسامح لدي الإنسان والكاتب. الكاتب الذي عاش عمره يرفض التعصب والتطرف الذي حمله في السنوات الأخيرة خطاب الإسلام السياسي حيث لم يفرط لحظة بتمسكه بقيم الدين السمح. نحن نرد غيبة نجيب محفوظ وهو في أبديته.. وندافع عن القيم التي عاش طوال عمره يدافع عنها وخوفاً من أن نستيقظ يوماً فنسمع صوته وهو يهمس في ضمائرنا: «آفة حارتنا النسيان».