فودرة مبللة وقطع صفيح متهالكة تحيط بموقد نار لتحافظ عليها مشتعلة بعيدًا عن الرياح التي تتقاذفها يمينًا ويسارًا، التى تستمد وقودها من "وابور جاز"، يستلقي على الموقد بإنسيابية اثنين من مكواة شديدة السواد وثقيلة الوزن تسمى "مكواة الزهر" نظرًا لصنعها من مادة الزهر شبيه بالحديد، ولوح خشبي عريض مستند على أعمدة خشبية أخرى، وزجاجة مياه..تلك الأدوات البسيطة هى مصدر رزق عم محمد المكوجي منذ 50 عامًا. فأثناء عبورك بحارة ضيقة ذات أرض متعرجة بمنطقة شبرا، يلفت انتباهك رجل نحيل الجسد ذو وجه حاد وبشوش تسلل الشيب إلى شعر رأسه، حفر الزمن تجاعيد وجهه ليحدد ملامحه، يقف وأمامه اللوح الخشبي يضع عليه الملابس المختلفة التى يريد كيها منتظرا مكواة الزهر حتى تسخن وخلفه قطعة خشبية مثبتة بالحائط ومسامير ليعلق عليهم شماعة الملابس التي انتهى من كيها. مكواة الزهر تتحدي البخار: وقف الزمن أمام المكان الذي يقبع به عم محمد ولم تستطع التكنولوجيا أن تخترق حاجز المترين اللذين يبسط سيطرته عليهما ودون حوائط جانبية أو سقف يحميه سوى لوح خشبي كواقٍ له من حرارة الشمس وقت النهار، فرغم اختراع مكواة بالبخار والكهرباء، إلا أن محل عمله احتفظ برونقه القديم منذ 50 عامًا وصمد أمام التكنولوجيا التي غزت جميع المحال والأذقة من حولة. فيستقر عم محمد أحمد علي، كل صباح في تلك الحارة الضيقة العتيقة فهو اتخذ تلك الحارة ملجأ لأكل عيشه وشهرته بالمنطقة لا تحتاج للافتة، فبضحكة بسيطة توضح حالة الرضى المرسومة على وجهه يروى لنا عم محمد البالغ من العمر 62 عاماً قصة عمله بمكواة الزهر، فهو يعمل بها وعمره ثمان سنوات، من خلال مساعدة عمه فى كي الملابس وبذلك الوقت لم يرى سوى مكواة الزهر أمام عينيه ليتمسك بها لتصبح مصدر عيشه الوحيد وصديق عمره الذي لم يتنازل عنه. وامتهن "عم محمد" مهنة المكوجي بمكواة الزهر فى ركن ضيق أمام المنزل الذى شهد مراحل طفولته ولم يتنازل عن ذلك المكان حتى بعد تغير محل سكنه لمدينة بهتيم شرق مدينة شبرا، التي تبعد عن منطقة عمله بساعتين، لأنه أمن بأن ذلك المكان هو مصدر رزق له ولا يمكن تغيره، ومنه يعول أسرته والمكونة من زوجته و3 أبناء، وكبيرهم بالغ من العمر 33 عاماً ومنهم ولد من ذوي الاحتياجات الخاصة، وسعى لتعليم أبنائه حتى حصل أحدهم على دبلوم تجارة والأخرى بالثانوية العامة. شغل الحكومة مابيأكلش عيش: ومع كل يوم جديد يبدأ عم محمد عمله بتنظيف الحارة التي يقف بها، وتجهيز ادواته واشعال النار على المكواة التي ذكر أنها تستغرق وقت طويل حتى تسخن يقدر بنصف ساعة، ثم يجهز الملابس التي يريد كيها ويرش عليها الماء ليرطبها ويلفها ويضعها أمامه ليبدأ عملية الكي بعد دقائق. وبمنتهى الرضا قال مكوجي الحارة، إنه حرم من التعليم وبعد إنهاء فترة الجيش عمل خدمات معاونة بمعهد بحوث البلهارسيا فى الوراق لمدة 23 سنة، ولكنه لم يستغن عن المكواة واستمر يعمل مكوجي بفترة المساء. واستكمل قائلاً: "مهنتي هي اللي فتحت بيتي مش هسبها دى المهنة اللى بأكل منها عيالى كتير او قليل راضى بيها، شغل الحكومة مش بيأكل عيش وبعد المعاش بقيت باجي من بعد الظهر لحد بليل وأنا ورزقي على الله". وتابع عم محمد منفعلاً: "المكواة الزهر دي الأسطى، الكهربا لاء، عندي ابني قالي غير المكواة للكهرباء قولتله أسف مقدرش أنا مقدرش أغير عليها زي المدام بتاعتي مقدرش أغيرها، وكمان أنا مينفعش أقعد في البيت جسمي ماخدش على الراحة لو قعدت اتعب أكتر وانا عائل الأسرة الوحيد". المكواة من النار للتراب: وأثناء حديثنا معه وجدناه يرفع المكواة من على النار ويغمرها بحبات التراب حتى يتحول لونه للأسود الكاحل من حرارتها ثم يمسحها بقطعة قماش صغيرة، وبسؤاله أجاب علينا "النار بتهبب المكواة وأنا مش بحب الإهمال وبراعي هدوم الناس النظيفة وبخاف عليها ف علشان أطلع الهباب اللي بيلصق في الزهر بحطها في التراب بعد النار وبعدين أمسحها بقماشة مبلولة ثم أكوي، ولو في حاجة سببت بقع في الملابس لازم انظفها وكدة هتاخد وقت ومجهود أو أرجعها لأصحابها لتنظيفها من جديد والناس ساعتها مش هتثق فيا وأنا مش واقف بلعب". الفودرة: فاكتسب عم محمد خبرة كبيرة فى الملابس وأنواعها وطريقة كيها فيعرف درجة حرارة كل نوع من أنواع القماش الذي يحتاجه ليتم كيها، وهل ستحتاج أن يضع الفودرة عليها أم لا، و"الفودرة" هي قطعة قماش يضعها المكوجية فوق الملابس لتقليل حرارة المكواة على بعض الملابس أو لأن هناك بعض الملابس المكواة بتأثر فيها أو تلمع لذا وجب وجود عازل وهى الفودرة. وبنبره شقاء قال: "أنا باجى الحارة بعد أذان العصر بنضف المكان اللى بقف فيه وأفرش حاجتى وولع الباجور عشان يحمى المكواة لأنها بتاخد وقت". المكواة الكهربا مضرة: وروى لنا عم محمد بخصوص مواكبته للتكنولوجيا وتحويل مكواة الزهر اليدوية إلى بخار كما فعل أغلب المكوجية: " عمرى مافكرت أغير مكواة الزهر بتاعتي عشان الرزق بتاع ربنا لكن مكواة البخار مبفضلهاش لأنها كهرباء وطاولتها صغيرة وفيها خطورة"، مبينا بذلك شدة البخار المتصاعد منها يتلف ويضر بخلايا الجسد. رزقي على الله: وعن وجود احتمالية لقلة زبائنه بسبب استخدام مكواة الزهر القديمة والأغلبية تحولوا للمكواة البخار والدراي كلين قال بمنتهى الثقة والقناعة والرضا: "الرزق بتاع ربنا وفيه زبائن كتير عارفة قيمة المكواة الزهر عشان بتكوى أحسن وبتحافظ على الهدوم غير المكواة الكهربائية، وأنا هفضل مكوجي بالمكواة الزهر لحد أخر العمر". شاهد الفيديو: