على أرض تشيلي البعيدة، وفى ليلةٍ ستظل محفورة في ذاكرة الكرة العربية، رفع شباب المغرب الكأس الذهبية، ليصبحوا أبطال العالم للشباب 2025، في إنجاز تاريخي هو الأول للعرب والثاني لإفريقيا بعد غانا 2009.. إنه الجيل الذي آمن بأن الأحلام لا تعرف المستحيل، فأسقط «الكبار» واحدًا تلو الآخر، من إسبانيا إلى الأرجنتين، ليُتوّج بملحمةٍ كروية جعلت العالم يقف احترامًا للمدرسة المغربية الجديدة. لم يكن طريق أسود الأطلس مفروشًا بالورود، فالمغرب بدأ البطولة ضمن «مجموعة الموت» التى ضمّت: إسبانيا والبرازيلوالمكسيك، لكنه خرج منها متصدرًا بثقة وبأداء يُدرّس. فاز على إسبانيا بنتيجة 2- صفر وكرر الإعجاز أمام البرازيل بنتيجة 2-1، قبل أن يخسر أمام المكسيك بهدف يتيم وهو مطمئن لتأهله. وفي الأدوار الإقصائية، توهج الأداء أكثر، فأطاح بكوريا الجنوبية ثم الولاياتالمتحدة، قبل أن يقهر فرنسا بركلات الترجيح، ويُسقِط الأرجنتين بثنائية نظيفة فى النهائى، بفضل الموهبة المتفجرة ياسر الزابيرى الذى أصبح رمزًا لجيلٍ لا يعرف الانكسار. ◄ من فكرة إلى معجزة كروية حين أعلن محمد السادس ملك المغرب فى عام 2007 تأسيس أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، كان الهدف واضحًا: صناعة جيلٍ مغربى ينافس أوروبا لا يتعلم منها فقط، وبعد 18 عامًا، جنت المملكة ثمار الحلم، وخمسة من نجوم المنتخب البطل خرجوا من رحم تلك الأكاديمية: ياسر الزابيرى، ياسين خليفى، حمزة كوتون، فؤاد زهوانى، حسام الصادق-كلهم أبناء مؤسسةٍ باتت تُلقّب ب «لاماسيا العربية». وهذه الأكاديمية ليست مجرد مشروع رياضى، بل منظومة فكرية تُربّى اللاعبين على الذكاء التكتيكي والالتزام والانتماء، وهى التى أنجبت من قبل أسماء مثل: يوسف النصيرى، عز الدين أوناحى، نايف أكرد-والآن تمدّ العالم بجيلٍ جديد يُعيد تعريف الكرة المغربية. ◄ اقرأ أيضًا | 100 ألف دولار.. الاتحاد المغربي يكرّم أبطال كأس العالم للشباب ◄ من معجب بميسي إلى قاهرهم «أنا أحب ميسي أكثر من أى لاعب في التاريخ».. هكذا قال ياسر الزابيرى فى مقابلة سابقة حين كان فى الخامسة عشرة من عمره، ولم يكن يدرى أن القدر سيمنحه بعد سنوات فرصة مواجهة بلد «الأسطورة». وفي نهائي تشيلي 2025، ردّ الزابيرى الجميل لمعلمه من بعيد، فسجّل هدفين فى مرمى الأرجنتين، أحدهما من ركلة حرة مذهلة، والآخر من تسديدة على الطائر، ليهدى المغرب أغلى ألقابه.. الزابيرى، لاعب فاماليكو البرتغالى، سجّل 5 أهداف فى البطولة، وكان من أبرز نجومها، ونال الكرة الفضية من «فيفا» ، فيما ذهبت الذهبية إلى عثمان معما، القائد الهادئ وصاحب الرؤية التكتيكية الرفيعة. ◄ مدرب تحدّي «الفيفا» بقوانينه! لم يكن فوز المغرب وليد الصدفة، بل ثمرة عقل مدرب عبقرى يدعى محمد وهبى، الذى أثبت أن الذكاء فى التفاصيل الصغيرة هو ما يصنع الفارق فى البطولات الكبرى.. واستفاد وهبى ببراعة من نظام «الفيفا الجديد» الذى يتيح للمدربين فرصتين فى المباراة لطلب مراجعة تقنية الفيديو، فكان أول من استخدمها بذكاء تكتيكى خارق. في مباراتي إسبانيا والبرازيل، تدخّل وطلب من الحكم العودة للفار، فاحتُسبت ركلتا جزاء غيّرتا مسار البطولة، وتكرر المشهد فى نصف النهائى أمام فرنسا، ثم فى النهائى ضد الأرجنتين، حيث جاءت الركلة الحرة التي سجّل منها الزابيرى هدفه الأول بفضل إصرار المدرب على المراجعة. ◄ مزيج من الواقعية والجمال لعب المغرب فى بطولة كأس العالم للشباب بأسلوب يجمع بين الدفاع المنظم والهجمات المرتدة السريعة، لكنه لم يكن فريقًا دفاعيًا صرفًا، وكان يمتلك هوية واضحة: الضغط العالى عند الحاجة، والتحولات السريعة التى تعتمد على مهارة الأطراف وسرعة الربط فى العمق. محمد وهبي استخدم طريقة (4-2-3-1) فى معظم المباريات، مع منح حرية كاملة للزابيرى ومعما فى التحرك بين الخطوط، وهى الخطة التى أربكت دفاعات الخصوم الكبرى، ولعل أكثر ما ميز المنتخب المغربي هو الانضباط التكتيكى والروح الجماعية، حيث لم يظهر الفريق وكأنه يعتمد على نجم واحد، بل على منظومة تعرف كيف تفوز. وبهذا التتويج، أصبح المغرب أول منتخب عربي يحرز كأس العالم للشباب، وثانى منتخب إفريقى بعد غانا، وإنه إنجاز يعيد الاعتبار للكرة الإفريقية التى طالما ظُلِمت، ويمنح العرب أملًا جديدًا في مقارعة الكبار بفضل منظومات حديثة مثل: أكاديمية محمد السادس، لكن الأهم أن هذا الجيل، الذى يبلغ متوسط عمره 19 عامًا فقط، يمثل نواة لمنتخب مغربى أول قادم بقوة، جيل قد نشاهده فى كأس العالم 2026 فى أمريكا وكندا والمكسيك، يواصل مسيرة التألق التى بدأها الكبار في قطر 2022. ◄ إرثٌ لا يتوقف الكرة المغربية اليوم لا تحصد المجد فقط، بل تصدره، ومن «أسود الدار البيضاء» الذين أبهروا العالم فى مونديال قطر، إلى «أشبال الأطلس» الذين كتبوا صفحة جديدة فى مونديال الشباب، يبدو أن إعصار الأطلس قادم ليغزو ثلاث قارات فى آنٍ واحد. لقد نجح المغرب فى أن يجعل من الحلم مشروعًا، ومن الأكاديمية مصنعًا للأبطال، ومن الرياضة سفارةً للعزة الوطنية ومن تشيلى إلى الرباط، دوّى النشيد الوطني عاليًا، ليقول للعالم كله: «هنا المغرب.. حيث تُصنع المعجزات بالعقل، وتُحسم البطولات بالإيمان».