تعلقت عيناها بالمشهد أمامها فى لهفة طفولية، وفتر ثغرها عن ابتسامة تشع براءة وسعادة لا حدود لهما، بينما انطلقت الزغاريد وعلت الأكف بالتصفيق والأصوات بالغناء لتكتمل اللوحة المعتادة لزفاف العروس. - مريم.. أين أنت يا ابنتى؟ سؤال أطلقته امرأة على وشك الدخول إلى مرحلة الثلاثينيات من عمرها إلا ان سمنة واضحة تغزو جسدها البض، قد أضفت عليها عمرا يتجاوز سنى عمرها قليلاً. التفتت «مريم» الواقفة بين يدى النافذة تراقب عبرها مراسم زفاف جارتها العروس، وأجابت أمها سريعاً: - أنا هنا يا أماه.. هل تريدين شيئاً؟ قالتها وعادت لتراقب المشهد فى حرص منها على ألا يفوتها شىء مما تراه، فابتسمت أمها فى سعادة حانية وقالت: - لا شىء يا ابنتى.. فقط أردت أن أطمئن عليك. ثم ترددت قليلاً عن قول شىء ما، وما لبثت ان اردفت فى لهجة تمتلئ حباً: - عقبالك يا حبيبتى. أطرقت «مريم» فى خجل شهى، بينما غزت وجهها حمرته المحببة إلى النفس، وعادت ببصرها لتحدق فى حفل الزفاف وقد شرد فكرها بعيداً. * * * - أتعتقدين أننى سأعيش حتى أرى «مريم» عروساً ترتدى فستانها الأبيض؟ كان لسؤال أم مريم الحزين وقع مؤلم ظهرت آثاره على قسمات وجه أختها التى عاجلتها هاتفة: - بعدًا للشر عنك يا أختاه.. لماذا تفكرين بهذا الشكل، فأنت ما زلت فى ريعان الشباب ومريم فى العاشرة من عمرها وسنة بعد أخرى سوف ترينها عروسًا تسر ناظريك وتفرحين بعرسها بإذن الله. تنهدت فى مرارة وقالت فى نبرة تملكتها الحيرة: - لست أدرى لماذا ساورنى ذلك الشعور عندما رأيتها تقف فى النافذة وتراقب العرس.. ثم أردفت فى حزن: - فجأة أصابنى شعور بأنني لن أراها عروسا ابدا.. لذلك فقد أحسست بأننى سأموت قريبا واتركها. هزت اختها رأسها فى عنف وكأنها تنفض عنها تلك الأفكار بعيدا، واغتصبت ابتسامة لم تخل من قلق وغمغمت: - انت تهزين يا أختى.. يبدو انك لم تنامى جيدا بالأمس. ثم اتسعت ابتسامتها وهزت كتف اختها فى جزل هاتفة: - ستزوجينها وتسعدين بأولادها وأولاد اولادها.. وسوف اذكرك بما نحن فيه هذا يوما ما. حاولت أم مريم أن تبادل أختها ابتسامتها لكن حزنا مبهما يسيطر على قلبها، كان أقوى من ابتسامها فاكتفت بإيماءة مستسلمة وأطرقت. * * * كان كل شىء رائعا، فستانها الأبيض ذلك الحلم الآتى من الجنة، الذى طالما راود قلبها.. كم يبدو جميلا.. وكم تبدو هى فاتنة تختال بجمالها بين كل الوجوه حولها، وجوه يسكنها الفرح وتمتلئ عيونها بالسعادة، ها هى أمها لا يسع الكون فرحتها ولا تكف عن التصفيق وإطلاق الزغاريد والابتسام لتلك وتقبيل هذه، وها هو أبوها يستقبل المدعوين من الرجال فى زهو فرح بزفاف ابنته الوحيدة. والعريس.. أين العريس.. أهم من فى ذلك المشهد. ها هو ذا.. يقبل نحوها وقد زانت وجهه الوسيم سعادة غامرة. يلتقط كفها فى لهفة ويطبع فوقه قبلة حانية تتساقط على أثرها حبات الخجل من وجهها وتبتسم فى حياء لتتصاعد آهات المدعوين وتصفيقهم فى سعادة و....... تفيق «مريم» من شرودها وحلمها الوردى على أصوات الرصاص الذى ينطلق احتفالا بالعروسين فى حفل الزفاف أسفل نافذتها تعقبه أصوات التصفيق والتهليل. حاولت أن تعود بفكرها مرة أخرى إلى حلمها وهى تتخيل نفسها عروسا ترفل فى فستانها الابيض.. أغمضت عينيها ووضعت يديها فوق أذنيها حتى لا يزعج صوت الرصاصات حلمها البرىء.. ها هى مرة أخرى بين يدى عريسها، لكن حلمها لم يكتمل، فقد أطلقت صرخة مكتومة وسقطت على الأرض بينما اختلطت أصوات العرس بدماء تنهمر من قلبها وقد سكنته رصاصة طائشة اخترقت الهواء لتصيبها وهى ترقب حلمها الذى صار مستحيلاً. مريم... بكل ما فى الكون من مرارة وقهر ولهفة وحزن، صرخت بها امها وهى تهرول نحو جسد ابنتها المسجى فوق الأرض غارقا فى دمائه.. احتضنت رأسها إلى صدرها ووضعت يدها فوق مصدر الدماء بقلبها وهى تصرخ فى لوعة: - لا يا ابنتى... لا تموتى. ثم رفعت وجها أغرقه القهر نحو أختها وصاحت منتحبة: - ألم اقل لك إننى لن أراها عروسا.. لكننى لم أتخيل ابدا ان هذا يعنى موتها.... لا. ثم أردفت صارخة وهى تهز جسد ابنتها فى لهفة: - لا تموتى يا «مريم».. لا.