تمضى سنة الله فى كل شئون حياتنا على أساس مبدأ التدافع بين الحق والباطل والخير والشر والصواب والخطأ والمعروف والمنكر، فالله فطر الناس على القابلية للخير والشر كما قال تعالى : «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَاوَتَقْوَاهَا». وبالتالى فليس هناك حضارة قامت على الشر المحض أو الباطل فقط، ولا هناك حضارة أيضا مهما كانت ارتبطت دائما بموازين وضوابط الحق والعدل فقط، إذ لا بد من نزوع بعض الأفراد أو الجماعات إلى الشر أحيانا كثيرة، وإلا لماذا اندثرت حضارات عظيمة وأفلت شموسها؟ وبالتأمل والتعقل، نجد هناك ارضيات مشتركة للتواصل بين الشعوب والحضارات. فلا يختلف عاقل على أن قيم الوفاء والصدق ومقابلة الإحسان بمثله والعطف على المساكين والفقراء ترسخ في نفوس وأبناء الشعوب والأمم على اختلاف أنواعها من خلال المدرسة والبيت وأماكن العبادات المختلفة كل حسب ديانته وثقافته ومعتقداته. والناس ينظرون بعين التقدير والاعتبار لكل من يتمسك بمثل هذه القيم. ان جزءا كبيرا من حضارات الامم والشعوب يقوم على ما يكمن فيهم من خير وحفظ لحقوق الآخرين واحترام ملكياتهم وخصوصياتهم وضبط النفس عن بعض الشرور والآثام. وكما قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم) : «النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقهُوا». فدل ذلك على أن الناس برغم زمن الجاهلية كان فيهم من يحب الخير وفعله أكثر من غيره، فما من شخص إلا ولديه بعض الخصال الشريفة المحمودة، ولكن علينا حسن الظن والبحث عنها. وعلى هذا، فلا يقبل ان تستمر حضارة الغرب طيلة خمسة قرون وهي قائمة على الشر الخالص والباطل المحض، إذ لا بد ان بعض اخلاق الصدق والوفاء والامانة فى المعاملات المالية والدقة والاتقان الذي نشأ في الانشطة التجارية كعامل للرواج وكسب الزبائن والعملاء والتوسع والتطوير قد انتقل إلى الاسرة والحياة العامة حيث يصعب انفصال الاخلاق بين صبح ومساء. وعلى بعض الدعاة والمثقفين الذين يغارون على دينهم وهويتهم وثقافتهم ألا يبتعدوا بسبب حبهم لدينهم عن ميزان العدل في إعطاء كل ذى حق حقه. فلا نحرم انفسنا من الاستفادة منهم وتعلم ما ينفعنا وذلك حين نعتقد انه ليس هناك شعبا او امة من الاشرار فقط. وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يذكر لنا كيف نستفيد من غيرنا حينما قال: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت فى الروم والفرس فاذا هم يغيلون اولادهم فلا يضر ذلك اولادهم شيئا». فالاعتراف بالاخر والاعتقاد بان فيه شيئا من الخير ينتفع به هو العدل والقسط الذى امر به الشرع الحكيم حيث قال: «و َلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». ولما روى اَلْمُسْتَوْرِدِ اَلْقُرَشِيِّ لعمرو بن العاص (رضى الله عنهما) حديث المصطفى حيث يقول: «تَقُومُ اَلسَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ اَلنَّاسِ، فَقَالَ لَه عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لَئِنْ قُلْتُ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ اَلنَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْد مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ اَلْمُلُوكِ». فلا نبخسهم حقهم، كما لا ننبهر بما لديهم دون انتقاء وتعقل. وعلينا ان نفهم سبب تخلفنا وتأخرنا عن ركب الحضارة والتقدم وان نستعد لدفع الثمن الذى دفعه الأوائل.