كلمة د.عبدالمنعم أبوالفتوح فى ندوة عقدت مؤخرا بالجامعة الأمريكية ببيروت تحت عنوان: "الدين والدولة فى الوطن العربي" -------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- من حقائق الإسلام الكلية المتعلقة بالعقيدة الإسلامية تعلقاً أساسياً أنه دين ودولة.. ولعل مقولة أحد المستشرقين: "لا أقول الإسلام دين ودولة بل هو الدين وهو الدولة".. كانت مقولة معبرة بدقة عن الواقع المنهجي والتاريخي في هذه المسألة. ومرجع هذا في الشريعة إلى أن الله تعالى ربط نجاة الإنسان في المفهوم الإسلامي بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). فلا نجاة من الخسران في الآخرة بالإكتفاء بالإيمان والعمل الصالح بل لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم يُؤمر المسلمون أمراً شرعياً أن يقيموا لهم الدولة إلا لهذا الغرض وهذ ابن تيمية رحمه الله يشير إلى هذا المعنى فيقول: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها)، والمعروف المتعلق بذلك يدخل فيه كل أشكال البناء والعمران والإنتاج المادي والمعنوي. وعلى هذا ينص القرآن: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد)، أي إقامة العدل وتحقيق العمران وصلاح كل شىء في واقع الإنسان. ظلت العلاقة بين (الدين) و(الدولة) محلّ نقاش بين الباحثين في الشأن السياسي منذ مطلع القرن التاسع عشر، ورغم أن الأمر لم يحسم نظرياً لصالح فصل الدين عن الدولة كخيار فكري نهائي وخيار إجتماعي سائد إلا أنه عملياً وفي ظل الإستبداد الذي عرفته أغلب المجتمعات العربية الإسلامية وفي إطار التوافق الذي حدث بين أنظمة ما بعد الإستعمار وبعض النخب فرضت علاقة غريبة ومركبة بين الدين والدولة حيث تم الفصل بين الدين والدولة وفي الوقت نفسه تمت محاصرة المؤسسة الدينية حتى لا تؤدي دورها في نوع من الإستقلالية التي تعيشها الكنيسة في المجتمعات الغربية لأن هذه الإستقلالية ستفرض على العلماء طرح المسألة على وجهها الصحيح وهو ما لا يريده القائمين على السلطة السياسية والثقافية في البلدان العربية وعليه فقد تم حرمان المجتمع من خطاب ديني متكامل. وأتصور أن تيار الإسلام الوسطي في كثير من بلدان الوطن العربي قام بدور أمين في الحفاظ الحضاري على المكونات الصحيحة للإسلام.. عماد النشأة والتكّون ونهضه الأمة. ماذا يعني الإرتباط بين الدين والدولة؟ لا يعني ذلك الحكم بالحق الإلهي كما كان يحدث في القرون الوسطى في أوروبا، لا يقول بذلك أحد على الإطلاق في الإسلام.. لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في زمن من الأزمان لأن ذلك بإختصار مرفوض إسلامياً.. خاصةً في الثقافة السنية. ولا يعني أن الدين هو الذي يُحدّد شكل الدولة وكل تفاصيلها ومكوناتها، لأن الإسلام لم يلزمنا بنظام سياسي نهائي بل إنه في أغلب مجالات الحياة -اللهم إلا المواريث والعقود والعبادات- لا يعتني بالتفاصيل والجزئيات إحتراماً للإجتهاد العقلي وإحتراماً للواقع المتغير ولحق التاريخ والأجيال. أما كون الدين هو الذي يُؤسس للمرجعية الأخلاقية والفكرية للمشروع السياسي الناهض، فهذا في واقع الحال أدق توصيف لما تتبّناه الرؤية الوسطية التي تُؤمن بها الأغلبية في الوطن العربي سواء كانوا منظمين في حركات أو غير منظمين. وهذا المعنى _حقيقةً_ هو الذي يقصده كثير من المفكرين في تاريخنا الحضاري، ومشهورة هى مقولة بن عقيل في وصف السياسة بأنها: ( هي فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي)، ولنا أن نتأمل بكل ما نملك من قدرات البحث والتفكير كلمة "لم يضعه رسول ولم ينزل به وحي". وهو الرأي الذي ذهب إليه أشهر علماء الأمة مثل ابن القيم وابن تيمية والشاطبي والقرافي وغيرهم، بأنه حيثما وجد العدل والحق فثَمّ شرع الله ودينه حتى ولو لم يدّل على ذلك نص صريح من قرآن أو سنة. من مقتضى العدل والأمانة - في تقديري- أن نُراجع بعض المقولات بوضعها في ظروفها التي أنتجتها حتى نستطيع فهمها من خلال واقعنا نحن.. ناهيك عن إحتياجنا لهذه المقولات من عدمه. ولَعلّي أذكر هنا بكثير من الإحترام مفكرنا الكبير المرحوم محمد عابد الجابري الذي يصف العلمانية الغربية بأنهاغير ذات موضوع في الإسلام لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة، ليس فيه كنيسة بالمعنى التطبيقي الذي شهدته التجربة الغربية في القرون الوسطى، لأنه بالمقابل هناك مسجد. بل ويذهب مفكرنا الكبير إلى أن: (الإسلام دنيا ودين، وأنه أقام دولة منذ زمن الرسول وأن هذه الدولة توطدت أركانها زمن أبي بكر وعمر والقول بأن الإسلام دين لا دولة هو في نظري قول يتجاهل التاريخ). والتساؤل المنطقي عن واقع العلاقة بين الدين والدولة في مجتمعاتنا هو لماذا دائماً نستحضر التجربة الغربية في رؤيتنا لهذا الواقع؟ أقصد تجربة العصور الوسطى مع قيام ثورة الإصلاح البروستانتية ضد سلطة الكنيسة في أوربا كمنطلق فكري لنظرية مارتن لوثر التي رسمت البدايات الأولى لملامح الفصل بين سلطة الدين والدولة ودعت إلى الرجوع للأصول المرجعية الصحيحة للدين المسيحي وتحريرها مما علق بها من أخطاء عقائدية وتاريخية. وعلى الرغم أن سياسة الفصل بين الدين والدولة في هذا السياق كان لها مبرراتها التي مهدت الطريق لتعليق الدين عن أداء رسالته الكاملة إلاّ أن قضية الفصل وبدون تمييز استهدفت القضية الأساس في رسالة الدين وهي سلطة القيم والأخلاق في حاكمية الدولة بهدف تجريد الإئتمان الديني من الدولة، إذا جاز هذا الوصف. الدين (في إطار الفهم العام لعلاقته بالدولة) هو سلطة القيم الثابتة التي توجه العقل نحو المسار الصحيح والتعايش الإنساني الكريم في دروب الحياة وهو نبع الحق والعدل والمساواة في الكيان الإنساني الذي كرمه الله.. وهو ما يشكل البعد الأخلاقي والقيمي للسياسة والاقتصاد، أكثر أمور الدنيا قابلية للإشتعال والتقاتل. وغنّي عن البيان أن الحكم بقصور الدين وتخلّفه عن فهم الواقع ومتغيراته ليس شاهداً على الدين بل شاهداً على التطبيق السيء لمفاهيم الدين وينبوع التاريخ من أغنى الينابع في المعرفة الحقيقية بالدوافع التي أنشأت وأنتجت هذة التطبيقات الخاطئة. لماذا لا نستحضر المعاني العمدة في الفهم الإسلامي عن المسئولية الفردية وعدم الإكراه والعلاقة المباشرة بين الخالق والمخلوق دون مذبح ولا هيكل؟ كل هذه الأُطروحات ستجعلنا نتصالح مع أنفسنا وثقافتنا وقيم حضارتنا تَصاُلحاً بنّاءاً في إتجاه النهضة التي يُصرّ البعض على ربطها بالفصل بين الدين والدولة في استنساخ غير مفهوم ولا مقبول لتجربة النهضة الأوروبية. هناك أيضاً تساؤل مشروع عن (وضع غير المسلمين في الدولة ذات المرجعية الإسلامية) والإجابة التي ينطق بها الفكر والواقع في مجتمعاتنا: إننا نتحدث في بلادنا عن الإسلام الحضاري وعن العروبة الثقافية أكثر من الإسلام الديني تحت ظلال (لهم ما لنا وعليهم ما علينا). على هذا الأساس كان المسيحي ومازال يعتبر نفسه ابن هذه الثقافة الإسلامية رغم مسيحيته، والنماذج أكثر من أن تُعدّ. وعلى هذا الأساس كانت المواقف صريحةً في تحقيق العدالة الإجتماعية والقانونية والمساواة التامة بين أبناء الوطن الواحد باعتبار الانتماء للوطن (حق المواطنة) وباعتبار الحق المبدئي لا باعتبار الدين. وأختم بذكر هذه النقاط الهامة: - أن اتجاه فصل الدين عن الدولة لم يستهدف الثورة على التفكير الخاطئ أو القائمين على الدين وإنما أعاد صياغة المصالح السياسية بأسلوب جديد فتح باب الأطماع على مصراعيه بين المجتمعات البشرية وكانت من نتائجه حروب دفعت الإنسانية ثمنها الملايين من أبنائها ومطلبها في الاستقرار والأمان لعصور متتالية والتاريخ الدامي للحروب البشرية خير دليل على ذلك. - إن القيم والأخلاق الحاكمة للسلوك البشري لا تتجزأ بين الدين والدولة وبين الدين والعلم وإنما هي رسالة واحدة هدفها الإنسان وسعادته.. بل إن القيم والمبادئ الأخلاقية هي ضمير السلطة وعقلها الأمين على مصالح البشر. - إن غياب سلطة القيم والأخلاق تِبعاً لغياب الدين عن الدولة قد أفرز واقعاً استثنائياً عن مفهوم السلطة بمعنى القوة.. وليس النظام الإجتماعي السليم.. ومن ثَمّ بناء تعظيم دور تجارة السلاح وتحديث الصراع بين الشعوب والسيطرة على مقدرات الشعوب المُستضعفة وتثبيت مفهوم حق القوة .. لا قوة الحق.