وبالرغم من الاستعدادات التي يقوم بها الطرفان لإنجاح عملية التفاوض وإخراجها من عنق الزجاجة، إلا أن هناك عقبات كثيرة كأداء تنتصب في طريق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. فالمعروف أن تلك المفاوضات يمكن أن تستمر، حسب ما صرح به الرئيس الفرنسي جاك شيراك، \"من عشر إلى عشرين سنة\" فضلاً عما توصف به المحادثات من أنها \"مفتوحة\" ولا تتقيد بأجل محدد مما يجعل الأفق غير واضح بالنسبة لتركيا المتلهفة للانضمام إلى أوروبا. وهذا ما يعني أنه حتى بعد انقضاء سنوات مديدة من المفاوضات فإن ذلك لا يقود بالضرورة إلى نجاحها مما سيحرم تركيا عملياً من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والاستفادة من الامتيازات الاقتصادية والتجارية التي يمنحها لأعضائه طيلة تلك الفترة. فالمعلوم أنه لكي تُمنح تركيا عضوية الاتحاد يلزمها موافقة كافة الدول الأعضاء البالغ عددها خمساً وعشرين دولة، وللأسف فقد سارعت بعض الدول فعلا إلى الإعلان عن تنظيمها لاستفتاء شعبي حول المسألة وهو ما يمكن أن يقوض عملية الانضمام من أساسها بالنظر إلى التخوف الشعبي من انضمام أنقرة ومزاحمة العمالة التركية الرخيصة للعمال الأوروبيين. لذا فإنه مازال أمام تركيا طريق طويل محفوف بالأشواك حتى تبلغ الهدف الذي وضعته حكومة أردوغان نصب عينيها والمتمثل في انتزاع مقعد لها بجانب الدول الأعضاء في الاتحاد. والأكثر من ذلك أن المناخ الحالي السائد في أوروبا بعد الضربة القاصمة التي تعرض لها الدستور الأوروبي في الاستفتاء السلبي الأخير من قبل فرنسا وهولندا لا يسهل أبداً عملية المحادثات ولا يحدث أي انفراج لمسألة انضمامها. فالدستور الأوروبي المقترح والذي كان من المفترض أن يضع القواعد لتوسيع الاتحاد وُئد في مهده ولم يكتب له النجاح. والنتيجة أن عملية الاندماج الأوروبي تمر حالياً بأسوأ أزمة عرفتها منذ خمسين سنة من تاريخها. \r\n \r\n وليس خافياً على أحد أن أوروبا تعاني اليوم من عجز رهيب في تقبل فكرة توسعة الاتحاد في اتجاه الشرق حيث توجد دول كثيفة السكان وفقيرة الموارد. فها نحن نرى ذلك الحلم الأوروبي بتشكيل فضاء سياسي متماسك على شاكلة \"الولاياتالمتحدة الأوروبية\" يستطيع مجابهة الولاياتالمتحدة الأميركية وباقي القوى الصاعدة كالصين والهند يفقد الكثير من زخمه ويتحول من مشروع توسعة متماسك إلى مجرد منطقة للتجارة الحرة لا تملك أي نفوذ سياسي فعال على الساحة الدولية. وإلى ذلك فقد بدأت أعداد متنامية من الشعوب الأوروبية تعرب عن موقفها العدائي تجاه مشروع توسعة الاتحاد خشية أن يقود ذلك إلى انهيار المشروع الأوروبي بأكمله. ومن هذا المنطلق شرعت العديد من الدول في التساؤل عما إذا لم تكن قد فقدت مسبقاً الكثير من سيادتها لصالح البيروقراطيين في بروكسل الذين لا ينظر إليهم بتعاطف كبير لدى الأوروبيين. ويُستنتج من خلال هذا التخبط في المشروع الأوروبي أن القارة تعاني من غياب هوية مشتركة، لذلك فهي مطالبة اليوم بالقيام بوقفة تأمل لمراجعة خطواتها المقبلة. وبالنظر إلى تلك التحديات الجسام التي تواجهها أوروبا، فإن وضعية تركيا على قائمة المطالبين بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لا تبدو مريحة أبداً. \r\n \r\n ولعل ما يعقد الوضع أكثر لجهة تركيا ويدعونا للقلق هي المعارضة التي يبديها بعض سياسيي أوروبا المخضرمين. ففي فرنسا مثلا يبدي نيكولا ساركوزي رئيس حزب \"الاتحاد من أجل الحركة الشعبية\" الحاكم والمرشح القوي لخلافة جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية المقبلة لسنة 2007 معارضة شديدة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وفي ألمانيا كذلك تبدو أنجيلا ميركيل قائدة الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض، والتي من المتوقع أن تخلف المستشار الألماني جيرهارد شرودر في الانتخابات المقبلة، مصممة على معارضتها لانضمام تركيا إلى الاتحاد. وقد صرحت بهذا الصدد في حديث أدلت به إلى إحدى المحطات الإذاعية \"لا أعتقد أنه يمكن لتركيا أن تصبح عضوا في الاتحاد في المستقبل المنظور\". أما الحل الذي تقترحه أنجيلا ميركيل والذي بدأ يلقى قبولا في بعض الأوساط الأوروبية فهو منح تركيا \"شراكة متميزة\" بدل عضوية كاملة. وبالطبع رفض أردوغان رفضاً قاطعاً أن تكون تركيا \"عضوا من الدرجة الثانية\" في الاتحاد واعتبر ذلك أمراً غير مقبول. غير أنه يجب الاعتراف بأن الرأي العام الأوروبي في وضعه الحالي، حيث يعاني من مشاكل داخلية متفاقمة وهوية متأزمة، غير مستعد لقبول دولة كبيرة كتركيا تزاحمه على امتيازات الاتحاد الأوروبي. وأمام معدلات البطالة المرتفعة في عدد من دول أوروبا الغربية بدأت تكشف هذه الأخيرة عن مخاوفها من اكتساح المهاجرين من أطراف أوروبا الشرقية أو شمال إفريقيا إلى أراضيها. \r\n \r\n أما المخيلة الشعبية الأوروبية فهي مازالت تخشى من تركيا الدولة الكبيرة ذات ال71 مليون نسمة والمرشحة لأن يرتفع هذا العدد إلى 100 مليون بحلول 2050، بالإضافة إلى أنها مازال ينظر إليها على أنها متخلفة وفقيرة، كما أنها دولة إسلامية على نحو لا يمكن استيعابها في الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الكثيرة التي أجرتها حكومة أردوغان، إلا أن المسافة الجغرافية والثقافية التي تفصلها عن أوروبا مازالت بعيدة. وليس من المتوقع أن يظل جاك شيراك أو جيرهارد شرودر في السلطة طويلا حتى يواصلا مساندتهما لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. \r\n \r\n ولا يجب أن ننسى أنه إذا ما فشلت تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فسيخسر الطرفان معا. فبالنسبة لأوروبا ستضيع فرصة سانحة للإفادة من حيوية اقتصاد تركيا وقوتها العسكرية، حيث يمكن لأنقرة في حال انضمامها إلى الاتحاد أن تلعب دوراً أمنياً مهماً يتمثل في تشكيلها منطقة عازلة تفصل أوروبا عن بؤر التوتر في الشرق الأوسط وتمنع تدفق المشاكل إلى حدودها الشرقية. والأكثر من ذلك أن أوروبا ستفوت على نفسها كذلك فرصة مد جسور المصالحة بين القيم الغربية من جهة وقيم المجتمع الإسلامي المعتدل والمستنير من جهة ثانية والذي يعتبر أمراً بالغ الأهمية في عالمنا اليوم. وليس مستبعداً أن يؤدي هذا الرفض الأوروبي لتركيا إلى تغذية المشاعر القومية لدى الأتراك، لا سيما مع ما سيتولد لديهم من خيبة أمل وإحساس بالغبن حيال تصرفات الأوروبيين إزاءهم. ولن أفاجأ إذا ما أدى ذلك إلى الإطاحة بحكومة أردوغان والقضاء على تجربته الديمقراطية المميزة في الحكم. \r\n \r\n وبالطبع لن يكون لرفض بروكسل انضمام أنقرة للاتحاد انعكاسات إيجابية على العالم العربي المتاخم لتركيا. فالعرب يحتاجون للنموذج التركي كحليف عسكري وسياسي وكمثال على مجتمع حيوي وناجح اقتصادياً يُلهم الشعوب العربية للاقتداء بنموذجها الرشيد في الحكم وبمساعيها الحميدة للتواصل بين الغرب والشرق. بيد أن كل فرص التعاون بين الشرق والغرب ستذهب أدراج الرياح إذا ما أصرت أوروبا على إغلاق أبوابها في وجه تركيا.