جريمة أستاذ الجامعة    نورهان عجيزة تكشف كواليس اليوم الأول للمرحلة الأولى بانتخابات النواب 2025 في الإسكندرية    أسامة الباز.. ثعلب الدبلوماسية المصرية    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2025 وخطوات استخراجها مستعجل من المنزل    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    سلطنة عمان تشارك في منتدى التجارة والاستثمار المصري الخليجي    بعد لقائه ترامب.. الشرع: دخلنا عهدًا جديدًا بعد سقوط بشار.. ولن نجري محادثات مباشرة مع إسرائيل    الإطار التنسيقي الشيعي يدعو العراقيين إلى المشاركة الواسعة والفاعلة في الانتخابات التشريعية    "ترامب": واثق في أن الشرع سيتمكن من أداء مهام منصبه    نجاح زهران ممداني حدث عالمي فريد    القنوات الناقلة لمباراة الكاميرون ضد الكونغو الديمقراطية في تصفيات كأس العالم    إصدار تصريح دفن إسماعيل الليثى وبدء إجراءات تغسيل الجثمان    واخدها في حضنه، رانيا يوسف تخطف الأنظار مع زوجها في العرض الخاص ل"السلم والثعبان" (فيديو)    كندا تفقد وضعها كدولة خالية من الحصبة بعد 3 عقود    يمهد الطريق لتغيير نمط العلاج، اكتشاف مذهل ل فيتامين شائع يحد من خطر النوبات القلبية المتكررة    انهيار جزئي من عقار قديم بالمنيا دون خسائر بشرية    أمطار على هذه المناطق.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    وزارة الداخلية تكشف ملابسات واقعة السير عكس الاتجاه بالجيزة    انهيار جزئي لعقار قديم قرب ميدان بالاس بالمنيا دون إصابات    التعليم تعلن خطوات تسجيل الاستمارة الإلكترونية لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية    نفسنة أم نصيحة، روني يشن هجوما جديدا على محمد صلاح    بعد طلاقها من كريم محمود عبد العزيز.. رضوى الشربيني داعمةً آن الرفاعي: «المحترمة بنت الأصول»    وداعا إسماعيل الليثى.. كاريكاتير اليوم السابع يرثى المطرب الشعبى ونجله ضاضا    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    أسعار العملات العربية والأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    مع دخول فصل الشتاء.. 6 نصائح لتجهيز الأطفال لارتداء الملابس الثقيلة    من البابونج للسلمون.. 7 أطعمة تساعد على تقليل الأرق وتحسين جودة النوم    استغاثة أم مسنّة بكفر الشيخ تُحرّك الداخلية والمحافظة: «رعاية وحماية حتى آخر العمر»    التخضم يعود للصعود وسط إنفاق بذخي..تواصل الفشل الاقتصادي للسيسي و ديوان متفاقمة    بعد لقاء ترامب والشرع.. واشنطن تعلق «قانون قيصر» ضد سوريا    وزير الخارجية ل«القاهرة الإخبارية»: مصر لن تسمح بتقسيم السودان تحت أي ظرف من الظروف    محدش يزايد علينا.. تعليق نشأت الديهى بشأن شاب يقرأ القرآن داخل المتحف الكبير    النائب العام يستقبل وزير العدل بمناسبة بدء العام القضائي الجديد| صور    سعر الطماطم والخيار والخضار بالأسواق اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    نيسان قاشقاي.. تحتل قمة سيارات الكروس أوفر لعام 2025    بسبب خلافات الجيرة.. حبس عاطل لإطلاقه أعيرة نارية وترويع المواطنين بشبرا الخيمة    بي بي سي: أخبار مطمئنة عن إصابة سيسكو    اللعنة مستمرة.. إصابة لافيا ومدة غيابه عن تشيلسي    لماذا تكثر الإصابات مع تغيير المدرب؟    تقارير: ليفاندوفسكي ينوي الاعتزال في برشلونة    المغرب والسنغال يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية والتحضير لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بينهما    قوات الاحتلال الإسرائيلي تصيب فلسطينيًا بالرصاص وتعتقله جنوب الخليل    تجنب المشتريات الإلكترونية.. حظ برج القوس اليوم 11 نوفمبر    المعهد الفرنسي يعلن تفاصيل الدورة الخامسة من مهرجان "بوبينات سكندرية" السينمائي    اليوم السابع يكرم صناع فيلم السادة الأفاضل.. صور    صلاة جماعية في البرازيل مع انطلاق قمة المناخ "COP30".. صور    مشهد إنساني.. الداخلية تُخصص مأمورية لمساعدة مُسن على الإدلاء بصوته في الانتخابات| صور    سعر الفول والدقيق والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    مروان عطية: جميع اللاعبين يستحقون معي جائزة «الأفضل»    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    ياسمين الخطيب تعلن انطلاق برنامجها الجديد ديسمبر المقبل    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    رجال الشرطة يجسدون المواقف الإنسانية فى انتخابات مجلس النواب 2025 بالإسكندرية    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مواجهة تحلل وطن (2/1)
نشر في التغيير يوم 26 - 11 - 2012

في هذا الوضع الحرج الذي تعيشه مصر بعد إعلان دستوري يكرس للاستبداد بحجة الثورة والتطهير، واستقطاب سياسي حاد زهدت فيه أغلب نخب القوى السياسية – على اختلافها - في النظر إلى المصالح الوطنية الجامعة لصالح مصالح حزبية وبعض اللوثات الأيديولوجية (الحقيقية) أو (المستدعاة) لغرض الحشد وبحجة الثورة كذلك، وقاد هذا لاحتقان حاد في بنية الدولة وخطر على مستقبها خصوصا مع رد فعل السلطة القضائية – وليس فقط مجموعة منها كما يُصوّر أو يتصور البعض، وأدى هذا لدماء عزيزة فاضحة لنا جميعا ونتحمل بشكل أساس مسئوليتها السياسية ونرمي على بعضنا البعض مسئوليتها الجنائية.
في ظل هذا – أجدني مجبرا على محاولة توصيف الأزمة وطرح حلول لها، بالرغم من نذيري – وغيري الكثير - حولها في الماضي المتوسط والقريب ، وبالرغم من شعور بقلة الحيلة بسبب العجز في الأدوات المادية للفعل لظروف الدراسة والغربة حتى مع وجودي الحالي القدري في الوطن الغالي، وليس حديثي من برج عل أوزع منه اتهامات وأسعد فيه بدور غير المنحاز والبريء من التهمة؛ بل أنا منحاز بالفعل لمسار ومن قبله لمباديء كما سيأتي، وأتحمل مسئوليته السياسية والأخلاقية.
ولكن اسمحوا لي أولا أن أُقحم مسألة شخصية لارتباطها بأمر عام أود التأكيد عليه. أزعم أن حلم الثورة وتغيير النظام المصري قد احتل كياني لمدة عشرين عاما لقناعتي أن ماأومن به من مرتكزات رسالية ووطنية من حرية وديمقراطية، وعدل اجتماعي واستعادة دور مصر في وحدة أمتها وتحررها وقبل هذا استقلالها أولا - لا يمكن أن يستقيم دون إسقاط النظام لأن مرتكزات بناء هذا النظام كانت هي بعينها معكوس ماآمنت به من مقاصد شرعية في بناء النظام السياسي ومنطلقات وطنية؛ فكان النظام مرتكزا على الاستبداد والقهر، والحيف الاجتماعي وزواج فاسد بين المال والسلطة، والتبعية وارتهان الإرادة المصرية لصالح خارطة استراتيجية أمريكية- إسرائيلية. وعلى هذا كان ارتباطي بالحركة الإسلامية منذ أن كنت في العاشرة حتى أول أسبوع بالثورة – بالرغم أني كنت متواجدا بشكل رسمي فقط - دون ولاء تنظيمي - قبلها بثلاثة أعوام لغرض الإصلاح الداخلي.
وبكل ما كان في التجربة الحركية الإسلامية من إيجابيات وثمرات وكذلك سلبيات شعرت بها وعاينتها؛ إلا أن اعتراضات جوهرية على المسار قد استقرت في ضميري منذ عقد تقريبا، بخصوص تأخر أولوية الانحيازات المقاصدية للديمقراطية والعدل الاجتماعي والاستقلال الوطني في خارطة الدعوى الشرعية، ولغياب رؤية تغييرية واضحة ومسار يهدف لإسقاط النظام لا الاتفاق معه على خطوط حمر ويحدث الاصطدام والصراع على المساحات تحتها، و المشاكل الإدراكية والتربوية التي تصيب الجماعات العقائدية المغلقة وتدعو لأوهام تتعلق بطهرية المسار والقيادة أو توهّم الاستعلاء والاضطهاد و إحلال الوسيلة الناقصة والمعرضة لصنوف الهوى والجهل والقصور (التنظيم والفكرة الدعوية حتى) محل الغاية المطلقة في نصرة الدين والوطن والحقيقة القطعية المتمثلة في حد الوحي، وهذا مايسميه البعض بداء التجسيد أو الحلول.
وحين جاءث ثورة يناير – التي استشرفها بعض النجباء قبلها بأعوام، كان واضحا أن خط التغيير قد ابتدأ رسمه، وأنه بالرغم من العوائق المتوقعة بسبب أن النخب السياسية في كل التيارات هي بذاتها من ميراث النظام السابق وتعاني من أمراض النفعية (الذاتية أو الفصائلية) والضيق الأيديولوجي على حساب تقرير المصالح المشتركة أولا، وبسبب أن الجيل الشاب كان ينقصه مزيدا من النضج الخبراتي والمعرفي والاتزان السلوكي كثيرا، وبسبب التصحر السياسي والقيمي والاجتماعي والحضاري الناتج من طول إرث الاستبداد.. أقول: أن كل هذه العوائق قد تعطل مسيرة التغيير وقد تدخلنا في متاهات تضيع أمام ناظرينا فيها معالم الصواب والخطأ وحتى الحق والباطل، ولكن صيرورة التغيير وآثاره في نضج الأجيال الشابة وإفلاس التجارب الحاضرة قيميا وسياسيا حاسمة – كما كنت ولاأزال أومن على الأقل.
وقيمة ماحكيت، وسيتأكد في بقية المقال، التدليل أننا نخوض – برغبتنا أو رغما عنا – معارك خطأ من حيث التسميات والأهداف والتحالفات والاستراتيجيات؛ فليست المعركة التي يلزم أن نخوضها هي مابين إسلاميين ومدنيين، أو بين ثوريين بالسلطة ومتآمرين بالمعارضة، ولكن بين ثورة و لاثورة، وبين معارضة حرة واسعة وسلطة ينبغي ردعها أن تستبد وتشجيعها لتتوافق وتسعى في مسار يحقق أهداف الثورة.
بديهيات غائبة ومسار بائس
وهناك للأسف بديهيات سياسية تغيب عن الكثير فينا ويسهم غيابها في تشويش الصورة الحالية والسابقة وفي خداع المصطلحات، فيمكن حينها تبرير أي مسار بمجرد إطلاق ألفاظ (الثورة) و(الديمقراطية) و(إرادة الشعب) و(التطهير). وأزعم أني على جهدي الضئيل والمعرض للقصور في الإلحاح على هذه البديهيات كثيرا – حتى من قبل الثورة بأسابيع (راجع مقال: المشروع المصري- بالأسفل) – فإن الحاجة ماسة الآن للتذكير بها سريعا ونحن في هذه اللحظة الحرجة وفي مفترق طرق.
ماحدث في مصر هو نموذج فريد لم تؤطره التجربة والمعارف السياسية من قبل، فهو يجمع بين نماذج الثورة والتحول الديمقراطي ودخل عليه شبح الانقلاب العسكري.
الثورة هي زخم شعبي منتفض يسعى لإسقاط النظام وتفكيك مراكزه (كل مراكزه) خصوصا أداته الباطشة، ويستغل الفراغ الناشيء والقوة التوافقية الدافعة لإنشاء نظام آخر وعقد اجتماعي جديد تتمركز فيه أهداف الثورة. وإن كان هناك بعض المراكز (كالجيش مثلا) لايمكن السعي لتفكيكها لاعتبارات خاصة ببنيته الوطنية (فهو ليس جيش طائفي كالسوري، أو مرتزق كالليبي، أو قبلي كاليمني .- وحكم هذا على تصرف الجيش نفسه من حالة الثورة) أو لمأزق الأمن القومي .. فلابد من إعادة تعريف العلاقة بينه وبين النظام الناشيء من حالة الثورة بخضوعه للهيمنة المدنية الجماعية بصورها التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وأخطر ماقد يهدد أي ثورة هو أن تفرز نظاما شموليا يسعى لقهر الناس بحجة حماية المصالح الوطنية، أو يتم اختطافها من قبل فصيل غير ديمقراطي سواء في قناعاته وانحيازاته أوتطبيقاته الداخلية، ولكن ثورتنا بالأصل كان مبعث قيامها البعد الديمقراطي، وهذا يجعلها أشبه بنموذج تحول ديمقراطي (ليس تقليديا كما حدث في الموجة الثالثة للديمقراطية في أمريكا اللاتينية وشرق ووسط أوروبا) ولكن ذي خطوات سريعة وثورية. وهذه تستدعي حسما في كثير من ملفات التحول الديمقراطية – الملف الأمني والعسكري بالأخص – استغلالا للزخم الضاغط ووقاية من الارتداد المعاكس لمراكز النظام بعد تهييجها في حال الثورة.
وحتى تحدث مهمة الثورة فكان من المهم أن تنشيء حالة الثورة بسرعة (استغلالا لحالة التوافق المؤقتة، والزخم الشعبي الجارف) قيادة جماعية تتولى المرحلة الانتقالية وتهيء ترتيب البيئات السياسية والتشريعية وتطهير الدولة لعقد انتخابات ينشأ منها عقد اجتماعي وسلطات (نموذج تونس). وقبول المؤسسة العسكرية – تحديدا – بقيادة المرحلة الانتقالية – كان مشكلة لأن هذه المؤسسة لايمكن أن تسعى للتغيير، بل تسعى دائما للحفاظ على المحددات الاستراتيجية للنظام الساقط – خصوصا في توجهها الخارجي والاستراتيجي وسياسات رأس المال العليا وكذلك مصالح المؤسسة المستقرة. وقد تشتبك بها مراكز قوى أخرى للنظام فتعيد النظام الساقط بمبانيه ومعانيه معا. وهذه الطبيعة الحاضرة في كثير من تجارب التحول الديمقراطي نتاج اعتبارات عديدة: طبيعة المؤسسة العسكرية المحافظة، ومصالحها المؤسسية المتضخمة والتي لاتتماشي مع العرف الديمقراطي في الهيمنة والرقابة، وخوفها من المؤاخذة على فترة مبارك ،وبسبب العنصر الخارجي الذي ترتبط به منظومة التسليح والدعم،أوحتى لتصورها الأبوي حول المصلحة الوطنية الذي هو ديدن المؤسسات العسكرية عموما خصوصا حين تفقد الثقة في القوى السياسية من المدنيين.
والحقيقة أن مسار احتواء الثورة المصرية – حتى من المنظور الخارجي – كان مرتكزا على أمرين: الأول هو استيعاب القوى السياسية الإسلامية – الإخوان تحديدا - ذات الشعبية ومحاولة اختراق الأخرى – الليرالبية بالأخص - لتقبل بالسياسات العليا الاستراتيجية والاقتصادية، والقوى الإسلامية بطبيعتها المكتسبة منذ ثلاثة عقود اقتربت كثير من التصور الرأسمالي ومقارنة برامجها الاقتصادية الحالية بالأدبيات الأولى للبنا وسيد قطب وعودة ولو في المباديء لا التطبيقات المتغيرة يظهر الفارق الواسع، وهذا ماعزاه البعض كالنفيسي للتجربة (الخليجية) و(وضعية رأس المال بالتنظيم)، أما بخصوص الخيارات الاستراتيجية فكان لابد أن يتطور دور المؤسسة العسكرية من (قابل) بها على مضض في عهد السادات، ل (شريك) فيها في عهد مبارك، إلى (وصي) عليها في عهد مابعد الثورة.
وإدارة المؤسسة العسكرية للمرحلة الانتقالية – بغض النظر عن الانتهاكات الحقوقية أو التعثر الإداري – دفع لأمرين أثرا على مفهوم الديمقراطية بالأساس (لاتنس أن الثورة المصرية هي ثورة في طور تحول ديمقراطي أو العكس).
الأمر الأول هو (تمثيلية) العملية الانتخابية، فالديمقراطية ليست صندوق انتخابات نزيهة فهذا التفسير (الإجرائي) للكلمة هو أكثر الأمور خداعا، لأن أي انتخابات يتم انعقادها في بيئات سياسية وتشريعية وأمنية بعينها، وهي كلها تؤثر بشكل أساس في المنتوج الانتخابي، ولابد لعملية الانتخاب في مرحلة (إعادة بناء) الدولة كسلطات ومؤسسات وعقد اجتماعي أن تتوافق عليها الأطراف السياسية المشاركة في أي ثورة وعلى شروطها وقواعدها، ولكن هذا لم يحدث، بل أسهم التعجيل بالتنافس والاستقطاب السياسي منذ الاستفتاء على التعديلات إلى تفكيك الزخم الثوري وضرب التوافق الوطني، وحدثت حالة من تفاهم القوى الإسلامية مع المجلس العسكري منذ التنحي والتأكيد على شرعيته، وفي ذات الوقت سعت نخب ليبرالية – بالأخص – للوذ بذات المجلس هروبا من الطغيان التنظيمي والشعبي للإسلاميين الذي بنوه على مدار ثلاثة عقود تحت مظلة التفاهم الخشن مع النظام السابق في حين حُرموا هم منها. ولهذا – فإن المنتوج الديمقراطي كان هناك شكوك كبيرة بين أطراف العملية السياسية في (تمثيليته) بسبب:-
- البدء بمخرون سياسي غير متكافيء أولا.
- ثم سلوك حزبي يخلط بين العمل الحزبي والاجتماعي والخيري والدعوي عند القطاع الإسلامي ممايخالف المبدأ الديمقراطي الذي يقضي بالفصل بين مساعات العمل الدعوي والنقابي والاجتماعي وبين العمل الحزبي لتحقيق توازن التسويات السياسية والاجتماعية بين المؤسسات والسلطات في الدولة وإلا صارت النقابات مثلا هي بوقا للأحزاب وللسلطة بدل، كما أنه يناقض مبدأ التكليف السياسي بإدارة السلطة لأنه يعتمد على القدرة في طرح رؤى سياسية وكوادر لتطبيقها وليس العمل الإغاثي أو المهني– وهذا الخلط له سلبيات إسلامية ودعوية واضحة كذلك (راجع المقال بالأسفل حول الدعوي والحزبي)
-البيئة التشريعية التي تم فرضها من قِبل المجلس العسكري: قانون الانتخابات الثلث فردي والثلثين قائمة، وحتى عدم التزام الإسلاميين به بأن ترشحوا كأحزاب على قوائم الفردي (وهذا مااعتمدت عليه المحكمة الدستورية في حكمها بحل البرلمان).
الركيزة الثانية في مفهوم الديمقراطية بعد تمثيليتها الناتجة عن التوافق حول البيئات وشروط اللعبة الانتخابية هو أن المنتوج الانتخابي لابد أن يسيطر على مساحات الدولة الوظيفية (حدود الحكومة والبرلمان بالطبع لا الدولة كما سيأتي).. ولكن في ظل وجود المجلس العسكري كحاكم رسمي للبلاد كان هذا مستحيلا، وبسبب التوافق الإسلامي العسكري طيلة عام ونصف، ثم بعد فترة تصادم نتجت من طلب المجلس لرئيس صلاحيات وطلب الإخوان لحكومة انتقالية وتصاعدت رغبة العسكر لإقصاء الإخوان بعد الرئاسة، حدث ثانية مع الصف الثاني بالقيادة العسكرية وتم إعادة تدوير العلاقة لتسمح ببقاء الإخوان وقناعة المؤسسة العسكرية بما تم الإقرار به من قبل من منطق الوصاية على المستوى السيادي الاستراتيجي والاستقلال الذاتي ودسترة كل هذا.
وبطبيعة الحال – فإن الحركات الإسلامية قد اكتسبت نضجا سمح لأغلبها على الأقل القبول بالديمقراطية كآليات ووظائف مادامت لاتصادم القطعي من الشريعة. وماحكينا فيه من مبدأي الديمقراطية ليس فقط هو في الدائرة التي سماها الأصوليون دائرة (الإمامة والسياسة) أو (الوسائل المتغيرة) التي لاتتدخل الشريعة فيها تفصيلا ولكن تضع لها المقاصد والحدود وخاضعة للتجريب والتطور المجتمعي والسياسي والعقد الناشيء الملزم، بل إنه بالنظر لتطور فكرة الدولة ووظائفها وتضخم دورها المركزي فإن السياقات الحالية قد تجعل النمط الديمقراطي السالف ذكره أكثر الطرق المتاحة تحقيقا للإرادة الشعبية والحكم الرشيد وتحقيق مناط الأمانة والكفاية فيه. ولهذا – ذكر أحد الإسلاميين الأوائل (حسن البنا) أن "النظام النيابي هو أقرب الطرق لروح الإسلام" حتى مع موقفه المتحفظ من فكرة الحزبية والذي تراجعت عنه جماعة الإخوان في وثيقتها الشهيرة عام 1994.
وقبل أن أختم هذا الجزء أشير إلى بديهية أخرى، وهي التمييز بين الدولة والحكومة وربط هذا التمييز بمرحلة التحول الديمقراطي وآلياته وأدواته. الدولة هي المكون السياسي الجامع بكل سلطاته وبنيته ومؤسساته المهنية والبيروقراطية وثوابته في الهوية والسياسة الخارجية والداخلية، والتي يقبل أن يعيش تحت ظلها الغالبية الساحقة من المواطنين. ولهذا فالدولة بهذا التوصيف – تنشأ عبر عقد اجتماعي وسياسي حول بنيتها وثوابتها ويؤسس لقوامها المهني الذي لايتبدل – بشكل كبير – حين تأتي حكومة -وتذهب أخرى (الدستور على أهميته يبقى مجرد وثيقة لترميز هذا العقد الاجتماعي والتوافق السياسي وليس منشئا لهما).
أما الحكومة والبرلمان – على اختلاف العلاقة بينهما تبعا لنظام الدولة- فهي سلطة منتخبة مؤقتة لتدير ملفات ووظائف الدولة تبعا للدستور، ولكن لها درجة محدودة في تغيير سياساتها وقياداتها وبناها المهنية. والسلطة القضائية – فبالرغم من عدم انتخابها فإن شرعيتها قائمة على قبول المجتمع في العقد الاجتماعي والسياسي بمبادئها التشريعية وعلاقتها التفصيلية بالسلطتين الأخريين بشكل متوازن، وعلى اطمئنان المجتمع لاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية ولأدوات العدالة ومنتوجها بعد ذلك.
المشكلة التي تأتي في مرحلة التحول الديمقراطي – وفي الثورة من باب أولى – أن بنى الدولة نفسها وأعرافها وأجسادها المهنية والعلاقة بين سلطاتها تحتاج لإعادة تعريف وهيكلة وتطهير من آثار النظام السابق، ولكن هذا محرّم أن يتم تركه ل (حكومة) صاحبة قرارات تنفيذية أو برلمان (مؤقت) يصدر قوانين، ولهذا فلابد من جعل العقد الدستوري أولا قادما بالتوافق (بحسب تعدد صوره وآلياته: على بيئات الانتخابات إذا كانت هي من تفرز الجمعية التأسيسية، أو على آلية صنع الدستور، أو على المسودة الأولية للدستور التي يتم استفتاء الشعب عليها في الطرق الأخرى)، بل حتى بعد الدستور: لايمكن السماح لسلطة منتخبة أن تستحوز على وظيفة إعادة هيكلة المؤسسات لأنها ستسيسها حتما شاءت أم أبت، ولهذا – فمبدأٌ في مرحلة التحول الديمقراطي أن تتم عمليات التطهير وإعادة الهيكلة تحت مظلة التوافق الوطني. وهذا يزداد تأكدا في حالة المؤسسات التي تحتكر العنف (الُمميت كالجيش، والمُنظِّم كالشرطة) لأنها لابد أن تبتعد في بنيتها وأفرادها وقياداتها وسياساتها عن أي حزب سياسي بشكل تام، ويزداد تأكدا في حالة السلطة القضائية لأنها – فضلا عن ضرورة ابتعادها عن الحزبية كمطلب عدالي– فهي سلطة موازية وليست مؤسسة تابعة وأساس شرعيتها قائم على استقلالها عن سلطة التنفيذ والتشريع فلابد أن يحدث التطهير داخلها بموافقتها وبيدها تحت الضغط السياسي المحيط وكذا الداعم.
والمسار الذي وصلنا له – وكلنا نعلمه – قاد لحالة شديدة الخطورة والعبث والضبابية في ذات الوقت.. فهناك فصيل حزبي أتى بانتخابات ويسعى لعمل دستور عبر آلية – لاتطمئن لكليهما القوى السياسية وتطعن فيهما السلطة القضائية. ولأنه فصيل واحد بالسلطة – فإنه لايحق له استدعاء الفعل الثوري المتجاوز لحدود السلطات بشكل منفرد (لأنه فصيل واحد أولا، ولأنه بالسلطة ثانيا وليس قبل تكوين المؤسسات وإنما بعد تسليم رسمي للسلطة) ولا القيام بأدوار مستقلة بإعادة الهيكلة، فضلا أن يتعامل بشكل أحادي مع سلطة قضائية وبطريقة تهدم استقلالها وتبطل أعمالا أساسية ومنتوجات أصيلة منها.
عندنا مسودة لايقبل بها الكثيرون – إما:
لشعور بعضهم من تغول أيديولوجي على الحريات والحقوق، خصوصا وأن الجميع قد قبل بالمادة الثانية وبتفسيرها الدستوري المستقر وربطها بقطعي الثبوت قطعي الدلالة ولكن الخوف من تفاسير جهوية أخرى للشريعة – قد تصل هي ذاتها لحد الشذوذ الفقهي، ومن وصاية لهيئة كبار علماء الشريعة بالأزهر ومحتمل خضوعها للاختراق الحزبي ،وهذه الوصاية مخالفة للنسق الأصولي والتاريخي الإسلامي أصلا وليس فقط الديمقراطي، ولعدم انضباط المادة المفسرة للشريعة سياسيا أو أصوليا (كل من الأدلة الإجمالية والقواعد الأصولية والفقهية بالتعريف الأصولي – فيه ماهو قطعي وظني تتعدد فيه الأنظار .. فلا تصلح المادة كمرجعية حاكمة وفاصلة للخلاف)
وإما اعتراضا على التوسع في صلاحيات الرئيس ومجلس الشورى - غير المطمأن لشرعيته وسعى الإعلان الدستوري لتحصينه أمام القضاء - لكي تبقى للفصيل الحاكم السيطرة التشريعية بغض النظر عن نتيجة انتخابات مجلس الشعب – هذا إذا لم يعد المجلس المنحل بفعل التحصين الرجعي للقرارات - بسبب نص المسودة على اشتراك مجلس الشورى في التشريع وتعيين الرئيس لثلثه،
- أو اعتراضا على الوصاية العسكرية الفجة في المسودة والتي كانت ثمرة لحالة فشل طويل في مسار الثورة وتفاهمات داخلية وخارجية منفردة من أغلب الأطراف بالمناسبة.
لكن المشكلة كما تتضح الآن، ليست مشكلة مسودة، وليست فقط مشكلة توافق على آلية لصنع المسودة، وليست فقط مشكلة مسار طويل ملتبس ومليء بالخروق أوصلنا لحال استقطاب وتفاهم فصيل مع العسكر واستدعاء بعض الفصائل الأخرى لتدخله كونه ملجأ ، ولاستفراد فصيل بالسلطة ورغبته في تجاوز صلاحيات انتخابه لتغيير دولاب الدولة لوحده والتجاوز على سلطة موازية والتكريس لحكم الفرد والفصيل؛ بل هي في غياب بديهيات سياسية بالأساس عن مسارنا السابق، وغياب لجيل شاب كان يؤمّل فيه أن يكون أكثر إقداما على التغيير والتوافق والبناء ولكن حجبته حتى الآن الساعة الرملية للنضج السياسي وتشبث النخب التقليدية بمواقعها في جميع التيارات واستدعائها لسيرة فشلها وأمراضها الإدراكية والسلوكية طيلة سنيّ النظام السابق.
في الحلقة الثانية والأخيرة – نحكي عن ملابسات الوضع الحالي ومآلاته، وعن الحلول المطروحة – سواء بشكل جمعي، أو لرافعة التغيير كما نتصورها.
----------------------------
مقالات مشار إليها:
مشهد الانتخابات والمشروع المصريhttp://www.alquds.co.uk/scripts/fb.asp?fname=data%2F2010%2F12%2F12-03%2F...
أحاديث حول الفصل بين الدعوي والحزبي http://www.almogtam3.com/thread.php?ID=798


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.