ظلت الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تعد القوة العسكرية الأكبر فى تاريخ البشرية دون مبالغة، ولم ينافسها فى هذا الدور سوى الاتحاد السوفيتى سابقا، والذى دخل فى حرب وصفت بالباردة حينها والساخنة فى بعض الأحيان للصراع على القوة والقدرة والسيطرة على مقدرات العالم. ثم احتفظت واشنطن لنفسها باللقب دون منازع بانهيار الاتحاد السوفيتى فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى وحتى الآن، لكن تعاظم هذا الدور وخاصة فى التدخل العسكرى المباشر من قبلها تجاه دول عدة عقب هجمات الحادى عشر من سبتمبر تحت قيادة جورج بوش الابن، الذى انهمك فى حروب عدة فى العراق وأفغانستان بشكل مباشر وصريح، وفى حروب غير مباشرة فى اليمن وباكستان وغيرها من الدول. اليوم تبدو الولاياتالمتحدة برغم احتفاظها باللقب كأقوى ترسانة عسكرية فى العالم بلا منافس، إلا أن قدرتها على خوض غمار حروب جديدة يبدو موضع شكّ فى الفترة الحالية وعلى المدى القصير على الأقل. نحاول من خلال هذا التحليل أن نناقش هذه الفرضية من زاويتين؛ الأولى مظاهر تراجع القوة الضاربة للولايات المتحدةالأمريكية وثانيا أسباب هذا التراجع ومآلاته مسبقا. فى الحقيقة المؤشرات التى تدلل على تراجع القدرة الأمريكية على التدخل تبدو عديدة من حولنا، فعلى سبيل المثال: الانسحاب الأمريكى من العراق الانسحاب الأمريكى من العراق مع اعتراف العديد من الخبراء بالفشل الكلى لواشنطن هناك بعد تحول العراق لمستنقع آثن للقوات الأمريكية، وقد لفت انتباهنا أكثر إلى ذلك نعومى تشومسكى فى كتابه (نظم القوة) والذى قال فيه متحدثا عن بوش الابن (ما دفع جورج بوش الابن فى 2007 للإعلان بشكل رسمى عن أن أى ترتيبات مع العراق يبنغى أن تتضمن شرطين، الأول حق الولاياتالمتحدة فى شن هجمات قتالية من خلال قواعدها فى العراق، والثانى هو تشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة الأمريكية، للعراق، وهو ما أكده بوش فى 2008 أيضًا، إلا أن الولاياتالمتحدة تخلت عما سبق أمام المقاومة الشعبية العراقية، ما سبق يدل على اتساق سياسات الولاياتالمتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ورغبتها فى إعادة نظام السيطرة التقليدى، إلا أنها تعوزها القدرة لتطبيقه). كذلك سحب الولاياتالمتحدة لاثنين من حاملتى الطائرات المقاتلة من الخليج العربى مؤخرا، وما نتج عنه من قلق خليجى، والذى كان يعد الوجود المكثف للقوات هناك ضمانة فى مواجهة إيران العدو المفترض لدول الخليج!!. البرنامج النووى الإيرانى التراجع الأمريكى الكبير فى الموقف من البرنامج النووى الإيرانى وتحول اللهجة الأمريكية من التهديد بالحرب إلى محاولة التوصل إلى حل سلمى، وإن كان يعنى ذلك تقديم تنازلات للإيرانيين، وهو ما بدا واضحا فى المباحثات الأخيرة بين الطرفين، حتى أن على أكبر صالحى وزير الخارجية الإيرانى توقع أن يبدأ فى العام القادم تخفيف العقوبات الدولية المفروضة على الجمهورية الإسلامية، وقال صالحى فى مؤتمر صحفى مشترك مع نظيره وزير خارجية بنين ناصيرو اريفارى باكو بطهران الأحد 10 مارس من هذا الشهر "يحدونا الأمل أن نشهد رفع العقوبات بشكل تدريجى فى المستقبل المنظور، واصفًا المفاوضات الجارية بين إيران وسداسية الوسطاء الدوليين بأنها تسير فى الاتجاه الصحيح"، رغم أن طهران وضعت شروطا مسبقة لجولة المفاوضات الجديدة. الانسحاب من أفغانستان الإعلان عن الانسحاب الكلى من أفغانستان بحلول عام 2014 م، رغم أنها بدأت فعليا فى تنفيذ هذا الانسحاب، وفى ظل تعاظم دور طالبان من جديد فى الساحة الأفغانية، حيث أشار تقرير أعدته وكالات استخبارات الأمريكية وقدمه إلى الكونجرس مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية جيمس كلابر الثلاثاء الماضى (أن التقدم فى الحرب على حركة طالبان ما زال ضعيفا، وجاء فى التقرير كذلك، أننا نعتبر أن تمرد حركة طالبان قد تراجع فى بعض المناطق الأفغانية، لكنها ما زالت تقاوم وقادرة على عرقلة الخطط الأمريكية والمجموعة الدولية)، بل ذهب التقرير إلى (أن التقدم على الصعيد الأمنى فى مناطق ينتشر فيها عدد كبير من القوات الأمريكية "ضعيف جدا"، فى حين أن طالبان قادرة على السيطرة على مدن وطرق إستراتيجية قرب مناطق تسيطر عليها الحكومة)، ورغم هذا الاعتراف الرسمى بالفشل تنسحب الولاياتالمتحدة من هناك بسرعة. عدم التدخل فى ليبيا وسوريا ومالى عدم التدخل العسكرى فى سوريا رغم المطالبات العديدة بذلك من قبل حلفائها، وإن كان عدم تدخلها هناك له أسباب أخرى كثيرة، إلا أن الخوف من الدخول فى الوحل السورى يظل عنصرًا مهمًا فى الموضوع. الاستعانة بحلف الناتو بشكل كلّى فى التدخل فى ليبيا عقب اشتعال الثورة هناك، على الرغم من اقتصار التدخل هناك على استخدام الطيران الحربى دون وجود قوّات قتالية على الأرض، ورغم ذلك اقتصر الدور الأمريكى على الدعم اللوجستى والمخابراتى. الحرب على مالى بدعوى محاربة تنظيم القاعدة وهى دعوى كاذبة كما أسلفنا فى تحليلات سابقة إلى أن الولاياتالمتحدة فضلت ترك الأمر برمته لفرنسا واقتصار دورها أيضا على الشق المخابراتى. التغييرات العدة التى أجراها أوباما فى طاقم الأمن القومى والتى تكلمنا عليها سابقا ووصلنا إلى أنها تغييرات لإخماد الحروب أكثر من إشعالها. هناك شواهد أخرى عديدة، لكن ما سقناه سابقا يكفى للتدليل على صحة الفرضية الأولى بأن القوة الضاربة لأمريكا تتراجع بشكل كبير، وهو ما يعنى أن القوة العظمى فى العالم فى طريقها حاليا للتداعى، مما يمهد إلى إعادة تشكيل وتشكّل فى النسق الدولى الراهن الذى ظل يتسم بشكل أحادى القطبية طيلة العقدين الماضيين، وهو ما يرجح فرضية أن نعود مرة أخرى إلى النسق متعدد القطبية سواء عسكريًّا أو اقتصاديًّا. فى المقال القادم نحاول الإجابة عن الفرضية الثانية والتى تتحدث عن أسباب وتداعيات تراجع القوة الضاربة للولايات المتحدة على الصعيد الإقليمى والدولى.