ظل الكثيرون بعد الحرب العالمية الثانية يتحدثون عن الولاياتالمتحدة كقلعة للحرية، وكان الجميع يرون فيها أنموذجا للمجتمع الحديث، بما أحدثته من تقدم اقتصادي وما ترفعه من شعارات الحرية التي صدقها الناس بكون الولاياتالمتحدة لم تشارك في مرحلة الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث وظلت عالما غامضا بالنسبة لكثير من شعوب العالم ولكن بمجرد أن تراجع نفوذ الاستعمار التقليدي وتحولت المنظمات الصهيونية للعمل من داخلها بدأ العالم يري وجها جديدا للولايات المتحدة لا يختلف كثيرا عن الوجوه الاستعمارية القديمة، كما رأي أنها تقول ما لا تفعل في عالم القيم والمبادئ ولا تكلف نفسها حتي بمعرفة ثقافات الشعوب التي تتعامل معها، وقد وضح هذا الأمر جليا في كتابات نعوم تشومسكي وآخرها كتابه الدول الفاشلة الذي استقطب الاهتمام في الولاياتالمتحدة وبدأ يثير اهتماما عالميا بسبب السياسات غير الحكيمة التي تتبعها واشنطن في كثير من بلاد العالم. وقد ذهب تشومسكي إلي وصف النخبة الحاكمة في الولاياتالمتحدة بأنها جماعة من المجرمين وضعت لنفسها شعارا تنطلق فيه من قول آدم سميث الذي نسبه للمستغلين في العالم وهو كل شيء لنا ولا شيء للآخرين ، وذهب تشومسكي إلي القول بان النخب الأمريكية الحاكمة تحاول من خلال تأثيراتها الاقتصادية وأسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها أن تخيف العالم بأسره وتنتزع منه ما تريد دون وازع أخلاقي أو إنساني. وعلي الرغم من أن الولاياتالمتحدة تصنف دولا مثل إيران والسودان بأنها من بين الدول الفاشلة في العالم فهو يري أن الولاياتالمتحدة تقف علي رأس هذه الدول التي بدأت معالم تدهورها وانهيارها واضحة للعيان. وتلك حقيقة لا يبدو أن إدارة الرئيس بوش مستعدة لقبولها لأن هذه الإدارة تبني سلطتها علي تجريم الآخرين واستثمار مآسيهم من أجل تحقيق أهدافها الشريرة. ويقول نعوم تشومسكي إن الولاياتالمتحدة اتخذت من مفهوم الفشل ذريعة تغزو بها شعوب العالم وهذا ما حدث بالنسبة للعراق وهاييتي حيث ارتكبت أفظع المآسي والجرائم الإنسانية. ويري تشومسكي أن كل الأسباب التي ساقتها الولاياتالمتحدة لتصنيف الدول الفاشلة تنطبق عليها، ومن ذلك عدم قدرة الدولة علي حماية مواطنيها، وقد ظهر ذلك جليا في أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وكذلك شعور الدولة بأنها بمنأي من المحاسبة الدولية وبالتالي تستطيع أن تفعل ما تشاء دون محاسبة أو مراقبة وذلك ما يحكم التصور الأمريكي في مجمله ذلك أن الولاياتالمتحدة لم تعد تقيم اعتبارا للمجتمع الدولي أو حتي الدول التي تتحالف معها، وهي تقوم بجميع أعمالها غير المشروعة بقرار ذاتي. وكذلك فإن الدولة الفاشلة هي التي قد تمتلك مؤسسات تبدو في ظاهرها ديمقراطية ولكن هذه المؤسسات تكون مجرد أداة في أيدي النخب لتمرير السياسات غير الإنسانية والمنافية للقيم الحضارية وذلك ما تفعله الولاياتالمتحدة في كل السياسات التي تقوم بها ضد الشعوب، وكل تلك من الأسباب التي تجعلها في طليعة الدول الفاشلة ولا تشفع لها في ذلك قوتها العسكرية أو الاقتصادية. ويري تشومسكي أن التدهور بدأ في الولاياتالمتحدة مع فترة حكم الرئيس رونالد ريغان ولكنه استمر في عهد الرئيس جورج بوش الأب والرئيس كلينتون وأخيرا في عهد الرئيس جورج بوش الابن الذي يري أن الولاياتالمتحدة بلغت في عهده أدني مستوياتها اللاأخلاقية والتي تخون طموحات الشعب الأمريكي في الحرية والعدالة. وأصبحت بذلك خطرا حقيقيا يهدد الجنس البشري. بسبب اعتناقها مبدأ أن الجنس البشري قابل للدمار من أجل أن تحقق هي أهدافها في الحصول علي المال والسلطة، ويتجلي ذلك بشكل واضح في قيام الرئيس جورج بوش بحرب غير مشروعة في العراق وانحيازه الكامل لإسرائيل وقتله مئات الآلاف من العراقيين في هذه الحرب وآلاف الأمريكيين كذلك وتلك قمة النفاق الاجتماعي الذي يري أن العالم كله من الأشرار لأنهم يرتكبون أخطاء ضد الولاياتالمتحدة، أما هي فتفعل ما تشاء دون أن تلحق بها أي صفة من صفات الذم. وحتي في المجالات التي تتطلب سلوكا حضاريا واضحا نجد الولاياتالمتحدة من أكثر الدول تقاعسا، حتي لوكان الأمر يخص سلامة مواطنيها، ويتضح ذلك في رفضها التوقيع علي بروتوكولات كيوتو المتعلقة بالمناخ. ولم يستيقظ الضمير الأمريكي حتي بعد الإعصار كاترين وظهور كثير من المظاهر في عالم اليوم التي تؤكد أن العالم مقبل علي مرحلة خطيرة من التغيرات المناخية وقد أحس هذا الصيف جميع سكان أوروبا آثر هذا التغير، ومع ذلك تصنف الولاياتالمتحدة بعض الدول بأنها دول مارقة، وليس المروق علي المبادئ الإنسانية في معظم الأحيان بل هو مروق علي إرادة الولاياتالمتحدة التي تريد من العالم كله أن يتصرف وفق إرادتها. ولعل أخطر ما في رؤية تشومسكي هو ما قال إنه يمثل الفاقد الديمقراطي في الولاياتالمتحدة، ذلك أنه علي الرغم من الإدعاء بالريادة الديمقراطية والأخذ بمبادئ الحرية فإن الولاياتالمتحدة تعاني من أسوأ النظم السلطوية التي تتحكم فيها النخبة السياسية بدلا من الشعب المهمش من خلال المؤسسات التي لا تخدم سوي مصالح النخب المتعارضة كليا مع مصالحه والتي تعرض أمن وسلام العالم للخطر. وقد أصبح الأمر في نهايته بدل دولة المؤسسات التي تحاسب علي الأخطاء فقد قامت دولة النخب التي لا تفعل شيئا سوي ما يحقق مصالحها. وتظل هذه النخب تسيطر علي وسائل الإعلام الأمريكية وهي لا تخيف الشعب الأمريكي من الأعداء الخارجيين فقط بل تخيفه أيضا من الأعداء الداخليين الذين هم في نظرها من الهنود الحمر السكان الأصليين للبلاد وكذلك الشيوعيين والسود والهسبان والمهاجرين، ويذهب تشومسكي لكي يظهر المفارقة في ما تعلنه الولاياتالمتحدة من مبادئ وما تمارسه في واقع الأمر من أعمال. إلي أن الولاياتالمتحدة هي الدولة الوحيدة من بين الدول الصناعية التي لاتملك نظاما للضمان الصحي وإن أكثر من ستين مليونا من مواطنيها معرضون لعدم توافر العناية الطبية عندما يحتاجون إليها بل إن كل مواطن أمريكي مدين بنحو سبعة وعشرين ألف دولار أمريكي. ومع ذلك تصر الحكومة علي خداع الشعب بإعلان مبادئ كبيرة لا وجود لها في عالم الواقع وذلك ما يستدعي في نظر تشومسكي أن يعمل الشعب من أجل استعادة ديمقراطيته المسروقة والتحكم في مقدراته حتي لو أدي ذلك إلي العصيان. ويري تشومسكي أنه من الضروري لكي تعود الولاياتالمتحدة إلي المجتمع الإنساني أن تعترف بالقانون الدولي ومحكمة جرائم الحرب وأن توقع علي بروتوكولات كيوتو وأن تترك للأمم المتحدة فرصة قيادة المجتمع العالمي وفق مصالح جميع شعوب الأرض، وهذا دور بدأت الأممالمتحدة تفقده، كما يطالب تشومسكي بضرورة إلغاء الفيتو في مجلس الأمن لأن الفيتو مظهر غير ديمقراطي وقد أصبح إحدي الوسائل التي تحقق بها بعض الدول مصالحها بأسلوب غير مشروع. ومجمل ما ذهب إليه تشومسكي يؤكد أن هناك تفاوتا كبيرا بين ما تعلنه الولاياتالمتحدة وما تقوم به من أعمال ذلك أن الولاياتالمتحدة لم تعد أنموذج الدولة التي يتطلع إليها الجميع بل أصبحت أنموذج الدولة التي يكرهها الجميع بسبب الأكاذيب التي ترسلها وعدم تورعها من ارتكاب أفظع الجرائم الإنسانية من أجل تحقيق مصالحها ويتجلي ذلك في أعداد القتلي في حرب العراق. ولا شك أن الولاياتالمتحدة التي تصنف سائر دول العالم التي تقف في طريقها بأنها من دول الاشرار والمارقين هي في نظر الكثيرين الدولة الأولي المارقة في العالم والتي تتسم بكل صفات الشر ولكن التخلص من هذا الشر واكتساب الإرادة لا يكون فقط بملاحظته بل بالتصدي له بكل قوة كما تفعل بعض الدول خارج العالم العربي وليست القوة في بعض الأحيان هي القوة العسكرية لأنه يكفي أن تمتلك الشعوب الإرادة في قبول ما تريد ورفض ما لا تريد لكي يكون ذلك طريقها لتحقيق أهدافها المشروعة.