بقلم: عبدالوهاب المسيري تميل الدراسات السياسية إلى تعريف المصطلحات بشكل "سياسي" , دون الغوص في تضميناتها الفلسفية أو المعرفية , ونحن إن لم نعرف الأبعاد المعرفية للمصطلح فلن ندرك إلا وجهاً واحداً منه , ولن نعرفه في كليته وتركيبته . وقد تم تعريف "النظام العالمي الجديد" عدة تعريفات سياسية تهمل بُعده المعرفي , مع أن هذا البعد هو الذي يكشف حقيقته
إن النظام العالمي الجديد ما هو إلا استمرار للنظام العالمي الاستعماري القديم , وما هو إلا تعبير حديث عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية في عصر السيولة الشاملة التي تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية , وهي المرجعية التي ترى أن الطبيعة والإنسان مجرد ظاهرتين ماديتين , تسري عليهما قوانين المادة , لا فرق بين الواحد والآخر . هذه الرؤية تذهب إلى أن مركز الكون كامن فيه ؛ لأن الكون بأسره يتكون من مادة واحدة , ومن ثم لا مجال للتجاوز أو لفاعلية المنظومات الأخلاقية , ويتجسد هذا المركز في عنصر مادي واحد , وتصبح بقية العالم بالنسبة له هي الهامش .
ويمكن أن يتجسد المركز في الإنسان أو في الطبيعة , فإن تمركز حول الذات الإنسانية فإنها تصبح هي المركز , وفي غياب أي مرجعيات متجاوزة يصبح أحد الشعوب هو (الأنا) المقدسة التي ترى بقية البشر والطبيعة باعتبارهما مادة محضة , يمكن هزيمتها وتوظيفها وحَوْسَلتها (أي تحويلها إلى وسيلة) .
وقد أعلن الإنسان الغربي أنه هو (الأنا) المقدسة وأن العالم قد انقسم - بسهولة - إلى الأنا والآخر , والقوي والضعيف , والغازي والمغزوّ , والمسلح والأعزل من السلاح , والغرب وبقية العالم (بالإنكليزية : ذا وست أند ذا رست The west and the rest) , ومنذ أن قام هذا النظام - النظام العالمي الاستعماري القديم - باقتسام العالم بدأ يصول ويجول , وبدلاً من أن ينشر الاستنارة والعدل انغمس في عمليات إبادة منهجية رشيدة , لم يعرفها تاريخ البشر من قبل (إبادة سكان الأمريكتين) , وانغمس في عمليات (ترانسفير) (نقل السود من إفريقيَّة إلى الأمريكتين , ونقل العناصر البشرية غير المرغوب فيها مثل المجرمين واليهود والفائض البشري والثوريين والفاسدين اجتماعياً إلى جيوب استيطانية) . وقد خاض هذا النظام الدولي - في الصين - حرب الأفيون الأولى ثم حرب الأفيون الثانية , حتى يحقق أرباحاً اقتصادية ضخمة , وقد قام بنهب ثروات الشعوب بشكل منظم , لم يعرف له التاريخ مثيلاً , ومع ظهور حركات التحرر الوطني في المستعمرات - ابتداءً من الأربعينات - قام النظام الإمبريالي العالمي بضربها بعنف شديد , ثم حاول في الخمسينات الالتفاف حولها بأن منح المستعمرات استقلالاً اسمياً , وأسس نظماً سياسية عميلة مستعدة لأن تعطيه امتيازات يفوق عائدها ما كان يحصل عليه من الاستعمار العسكري المباشر .
إن تاريخ النظام العالمي الاستعماري القديم هو تاريخ النظام الصناعي العسكري الإمبريالي الغربي الذي حوَّل العالم إلى مصدرٍ للطاقة الطبيعية والبشرية الرخيصة وإلى سوقٍ لبضائعه . وعلى الرغم من تغيُّر الأشكال (الاستعمار الاستيطاني الإحلالي - الاستعمار الاستيطاني المبني على التفرقة اللونية - الكولونيالية - الإمبريالية - الاستعمار الجديد) , فإنه نظام عالمي واحد يحاول أن يفرض - بالقوة - حالة التفاوت بين الشعوب والأمم .
قام هذا النظام الإمبريالي العالمي بغرس كل أنواع الاستعمار في عالمنا العربي (الاستعمار العسكري في مصر , السودان , ليبيا , المغرب , تونس , الصومال , العراق , جيبوتي , سورية , لبنان وأريتريا - الاستعمار الاستيطاني في الجزائر - الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فِلَسطين) , وقام بنهب هذه المنطقة , إما مباشرة إبَّان فترة الاستعمار العسكري المباشر أو من خلال التحكم في أسعار المواد الخام (خصوصاً النفط) , وعن طريق بيع أسلحة ببلايين الدولارات لنظم يضمن هو بقاءها في الحكم , ويعلم جيداً أنها غير قادرة على استخدام هذا السلاح , كما أثبتت الخبرة التاريخية التي يريدنا أن ننساها .
وتتضح هوية هذا النظام العالمي الإمبريالي المغلق في ظهور الفلسفات العنصرية والداروينية والنيتشوية التي تقسم العالم - وبحدة - إلى الأنا والآخر , وتجعل الذات القومية هي المعيار الوحيد للحكم , وتجعل الغرب هو المركز , وتجعل الإنسان الأبيض هو صاحب المشروع الحضاري الوحيد الجدير بالاحترام والبقاء , ومن هنا عُبئ الرجل الأبيض الشهير , فهو وحده القادر على اختيار الطريق الصحيح , أما الآخر فهو عاجز ضالّ . وفي هذا الإطار ظهرت الفاشية والنازية ثم الصهيونية وهي دعوة لحل مشاكل أوروبا (المسألة اليهودية) عن طريق تصديرها للشرق .
فحينما كان هِرْتِزِل يتحدث عن إنشاء دولة يهودية يضمنها "القانون الدولي العام" -فإنه كان يعني "القانون الغربي الاستعماري" , الذي يتحكم في العالم ويقسمه حسب رؤيته ومشيئته , ثم صدر وعد بلفور في هذا الإطار , إذ أعطت بريطانيا الحق لنفسها في أن تمنح أرض فِلسطين للفائض البشري اليهودي في الغرب , وأن تنقل من فِلسطين سكانها الأصليين (تمت الإشارة إليهم باعتبارهم العناصر "غير اليهودية" , أي "غير الغربية" , ومن ثم فهم يقعون خارج نطاق الحقوق والمسئوليات) , ثم قام النظام الدولي - مرة أخرى من خلال هيئة الأممالمتحدة - بتقسيم فِلَسطين ومنح الوجود الصهيوني شرعية مستمدة من شرعيته الدولية هذه , ثم استمر النظام الدولي - متمثلاً في شِقِّيه الرأسمالي والاشتراكي - بالاعتراف بالدولة الصهيونية , ودعمها إما بشرياً عن طريق نقل المادة البشرية من شرق أوروبا , أو مالياً وعسكرياً عن طريق الدعم المالي والعسكري من غرب أوروبا والولاياتالمتحدة , وهو دعم ظل يتزايد في حجمه ونوعه يوماً بعد يوم , حتى وصل إلى التحالف الاستراتيجي المعلن بين "إسرائيل" والولاياتالمتحدة , مؤكداً بذلك أن الغرب - صاحب النظام الدولي - هو المهيمن على العالم , وأن العالم هو المسرح , وأن الجنس البشري هو المادة التي وظفها لصالحه .
هذه رؤية ثنائية حادة تنكر تاريخ الآخر وإنسانيته , ولا تقبل به إلا كمادة استعمالية , وقد تكررت ممارسات النظام الإمبريالي الدولي القديم بأشكال تتراوح بين درجات مختلفة من الحدة والتبلور في أنحاء آسيا وإفريقيَّة وأمريكا اللاتينية , وكان يمكن للاستعمار أن يستمر على شكله القديم , ولكن حدثت تطورات تاريخية عميقة لا تشكل لحظة إفاقة أخلاقية تاريخية - وكيف يمكن أن نتوقع هذا من حضارة مؤسسة على أساس القانون الطبيعي والفلسفة النيتشوية والداروينية ؟! - وإنما تشكل لحظة إدراك ذكية من جانب الغرب لموازين القوى , أدت إلى ظهور النظام العالمي الجديد الاستعماري .
ونحن نلخص أسباب ظهور هذا النظام الجديد فيما يلي :
أدرك الغرب عمق أزمته العسكرية والثقافية والاقتصادية , وأحس بالتفكك الداخلي وبعجزه عن فرض سياساته بالقوة.
أدرك الغرب استحالة المواجهة العسكرية والثقافية والاقتصادية مع دول العالم الثالث , التي أصبحت جماهيرها أكثر صحواً , ونُخبها أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية .
أدرك الغرب أنه على الرغم من هذه الصحوة , فثمة عوامل تفكك بدأت تظهر في دول العالم الثالث , فقد ظهرت نخب محلية مستوعبة تماماً في المنظومة القيمية والمعرفية والاستهلاكية الغربية - يمكنه أن يتعاون معها ويجندها , وهي نخب يمكن أن تحقق له - من خلال السلام والاستسلام - ما فشل في تحقيقه من خلال الغزو العسكري .
لكل هذا , أدرك الغرب إمكانية اللجوء للإغواء والإغراء بدلاً من القمع , والاستفادة من التفكك لضرب التماسك بدلاً من الهجوم التدميري المباشر ؛ وبذا يحل إشكالية عجزه عن المواجهة ويتخلى عن مركزيته الواضحة وهيمنته المعلنة , ليحل محلها هيمنة بنيوية تغطيها ديباجات العدل والسلام والديمقراطية التي ينقلها البعض ببَبْغائية مذهلة . ويمكن أن نتعامل بشيء من التفصيل مع التغيرات العالمية التي تشكل إطاراً لظهور النظام العالمي الجديد كما يلي :
على المستوى العسكري
أدت مرحلة الحرب الباردة بين الدولتين العظميين إلى إرهاقٍ متبادل لهما , نتيجة الدخول في سباق للتسلح لا نهاية له , خصوصاً وأن تطوير تقنية السلاح أصبح مسألة مكلفة للطرفين بشكل لا يطيقه أي منهما , وعلى الرغم من "انتصار" الولاياتالمتحدة , إلا أن النزيف قد أثر فيها , وقد أصبحت الحروب الحديثة أمراً مكلفاً للغاية , يتطلب تمويلاً ضخماً يصعب على أي دولة - بما في ذلك الولاياتالمتحدة - القيام به , خصوصاً وأن ثمة أزمة اقتصادية عالمية , تجعل من الصعب على الشعوب الغربية القبول بتخصيص اعتمادات عسكرية كبيرة في وقت تقوم فيه كثيرٌ من الدول الغربية بتصفية مؤسسات الرفاه الاجتماعي .
تراجعت القدرات العسكرية للاستعمار الغربي ؛ بسبب تصاعد معدلات العلمنة والتوجه الحاد للإنسان الغربي نحو المنفعة الشخصية واللذة المباشرة التي لا يمكن إرضاؤها إلا بالإشباع الفوري , وقد أدى هذا إلى انخفاض الروح النضالية لدى الإنسان الغربي وإلى ارتفاع تكاليف الحملات العسكرية . وقد صرح المتحدثون باسم المؤسسة العسكرية الأمريكية بأن إمكانياتها قد أُجهدت تماماً أثناء العمليتين المتزامنتين لإنزال الجنود الأمريكيين في كلٍّ من غرانادا ولبنان , وذلك على الرغم من صغر حجم العمليتين ؛ بسبب تضخم قطاع الخدمات في القوات المسلحة - تماماً كما يحدث في المجتمعات الاستهلاكية الحديثة , إذ يتطلب إنزال جندي أمريكي واحد خدمات عدة جنود , يصل عددهم أحياناً إلى عشرة , مما يعني أن إنزال عشرة آلاف جندي يشغل ما بين خمسين ومائة جندي آخر ! (وقد كانت حرب الخليج خليطاً من المأساة والملهاة في هذا المضمار ؛ بسبب معدل الرفاهية العالي) .
تراجعت الهيمنة العسكرية الغربية ؛ بسبب ظهور دولٍ لها قوة عسكرية ضاربة وقوة نووية غير خاضعة للهيمنة الغربية , مثل كوريا الشمالية والصين , وربما باكستان.
أدرك الغرب - في الوقت نفسه - عبث المواجهة العسكرية مع القوى المجاهدة غير الرسمية , خصوصاً بعد تجربته المريرة في فيتنام (تجرِبة الانتفاضة الفِلَسطينية المستمرة وتجربة أفغانستان الناجحة) .
ظهور أسلحة دمار رخيصة مثل الصواريخ ذات الرؤوس الميكروبية (قنبلة الفقراء النووية على حد قول أحد المعقلين) , بل أثبتت حرب أفغانستان مقدرة الجماعات الفدائية على الحصول على أسلحة ذات مقدرة تدميرية عالية , لا يحتاج استخدامها إلى متخصصين وإلى دورات تدريبية .
على المستوى الثقافي
تراجعت المركزية الغربية على المستوى الثقافي ؛ بسبب ظهور كتلة العالم الثالث , وظهور حركات بعث قومي فيها ؛ بسبب تزايد الوعي بالذات الثقافية ؛ وبسبب أزمة الغرب الذي لم يعد نموذجاً جذاباً ناجحاً كما كان في الستينات . ومما ساعد على ذلك ظهور أقليات ثقافية إثْنية داخل العالم الغربي ذاته لا تقبل بالهيمنة الثقافية الغربية أو بمركزيته الثقافية .
وقد حدث هذا في وقت تمر فيه الحضارة الغربية بأزمة عميقة , فلم يعد الغرب واثقاً تماماً بنفسه كما كان الأمر من قبل ؛ وذلك مع تفشي النسبية الثقافية وظهور مراكز اقتصادية عسكرية وثقافية أخرى في العالم , ومع تفاقم الأزمة الاجتماعية في الداخل (الجريمة - تفكك الأسرة - الإيدز - المخدرات - الإباحية) ؛ ولذا لم يعد قادة العالم الغربي قادرين على الحديث عن تفوق الجنس الأبيض , كما كان عهدهم في الماضي القريب .
مع هذا , لاحظ الغرب أن ثورة المعلومات والنظام الإعلامي الجديد - بأفلامه وكتبه ومرئياته ومراكز بحوثه - لديه مقدرة هائلة على الاختراق , تساعد على نقل المنظومة القيمية الغربية إلى كل أرجاء العالم , بعد أن كانت محصورة إلى حد كبير في الغرب .
أدرك الغرب أنه ظهر في العالم الثالث نُخبٌ محلية تنتمي (اسماً) إلى شعوبها , ولكنها تنتمي (فعلاً) من ناحية الرؤية والتطلعات والأحلام وأسلوب الحياة - إلى العالم الغربي . ومن الملاحظ أن تصاعد الوعي القومي صاحبه أيضاً تصاعد في معدلات العلمنة والترشيد والأمركة في كل أنحاء العالم , وتم اختراق كثير من أعضاء النخب الثقافية , كما تم الاستيلاء على أبنائهم , وبدأ الحلم الأمريكي يتسرب إلى قطاعٍ لا بأس به من الجماهير , وهذا ما يشير إليه البعض بظاهرة الكَوْكَلَة (نسبة إلى مشروب الكوكا كولا) أو الكوكاكولانية بدلاً من الكولونيالية , والكوكاكولانية هي اختراق المنظومة القيمية الغربية لأحلام الناس وعقولهم من خلال برامج التلفاز - على سبيل المثال - دون اللجوء إلى القوات العسكرية , وقد ساهمت ثورة المعلومات في هذه العملية .
على المستوى الاقتصادي
تواجه الولاياتالمتحدة - قائدة العالم الغربي - مشاكل المديونية وعجز الميزان التجاري , فالدَّيْن الأمريكي يزيد على ثلاثة تريليونات دولار , وانخفضت حصة الناتج القومي الإجمالي الأمريكي من الناتج العالمي - إلى الثلث . ويتنبأ بعض الاقتصاديين بأن الولاياتالمتحدة - التي أضعفها عِقدان من الركود - ستصبح بحلول عام 2000 ثالث قوة اقتصادية بعد أوربا واليابان , اللتين سوف تتفوقان على أمريكا من حيث الناتج القومي الإجمالي وحجم الاستثمارات في الخارج وحجم الصادرات .
حدث هذا في وقت بدأت تظهر فيه مراكز اقتصادية غير غربية تُطور نفسها خارج شبكة الهيمنة الغربية مثل اليابان والصين وماليزيا وغيرها .
لاحظ الغرب أن كثيراً من دول العالم الثالث أصبحت واعية بمصالحها الاقتصادية , وبآليات السوق المحلية , وكيفية السيطرة عليها , وبآليات إدارة الحكومة والاستثمار في الداخل والخارج , وأصبح لدى كثير من حكومات العالم الثالث خبرات محلية ومستوردة تجعل عملية النهب الاستعماري القديمة - التي بدأت باستبدال المرايات بالأراضي - صعبة , بل ومستحيلة .
أدَّى تطور الاقتصاد الغربي وتمدد السوق الغربية إلى ظهور ما يشبه الاقتصاد الدولي - وهو اقتصاد غربي ساحته كل الدول , وظهرت الشركات عابرة القارات التي تحمل الرأسمال الغربي في كل مكان , بحيث يتبعها أعداد هائلة من الموظفين والمستفيدين , وهي تحمل معها أنماط الاستهلاك في السوق الغربية باعتبارها كياناً آلياً يتطلب تنميط الآخر .
لاحظ الإنسان الغربي أن ثمة قضايا جديدة لا يمكن مواجهتها إلا في إطار عالمي , وهو ما يتطلب التعامل مع حكومات العالم الثالث . فثمن التقدم لم يعد مجرد تلويث نهر أو إصابة مجموعة من الناس - مثلاً - بداء الكبد , فنحن بدأنا نسمع الآن عن ظواهر ذات طابع كوني , مثل ثقوب الأوزون وسخونة الغلاف الجوي . وفي عصر الإمبريالية الغربية كان الإنسان الغربي يُصدِّر للشرق فواتير التقدم وينساها , أما الآن فإن ثقوب الأوزون لا تعرف الفرق بين الشرق والغرب , وتذكره - الإنسان - بالدمار الذي يحيط بالجنس البشري .
وإذا أخذنا انتشار المخدِّرات - باعتباره أحد النتائج السلبية للتقدم - فإن هذا يعني أنها هي الأخرى تسهم في عملية تدويل العالم . وفي القرن الماضي , كان الاستعمار الإنكليزي يدخل حرب الأفيون الأولى والثانية ؛ ليفرض على سكان الصين تناول الأفيون بقوة السلاح ويحقق الربح لنفسه . ومع هذا كان المجتمع الإنكليزي يستمر في الحفاظ على أخلاقياته الفيكتورية المحافظة , وحتى في الستينات , كانت الشرطة الأمريكية لا تمانع كثيراً من وجود المخدرات في حي هارلم الأسْوَد في نيو يورك , وكان هذا يُعد شكلاً من أشكال الضبط الاجتماعي . أما الآن , فإن كارتل إسكوبار في كولومبيا , وكذلك المثلث الذهبي - تمتد أياديهم لتصل إلى أولاد الطبقة المتوسطة البيضاء في نيو يورك ولندن وضواحيهما , والمخدرات التي تُزرع في منطقة الإشعاع النووي في تشرنوبيل - ولذا فهي تنمو بسرعة سرطانية - تجد طريقها إلى كل أرجاء المعمورة ! .
إن ما حدث ليس اختفاء العالم ذي القطبين والتلاقي الأيديولوجي بين القوى العظمى المتصارعة (المتمثلة في روسيا - اليابان - العالم الغربي) وإنما هو - أيضاً - تراجع المركزية الغربية وظهور مراكز عديدة تتفاوت قوةً وضعفاً . وإدراك الغرب لذلك , وإدراكه - أيضاً - لمواطن الضعف في القوى المقاوِمة له , كل هذا أدى إلى أن يتبنى الغرب استراتيجية جديدة وهي الاستعمار العالمي الجديد , فهو - من الآن فصاعداً - سيلجأ إلى التفكيك بدلاً من التدمير , وإلى الإغواء بدلاً من القمع بقدر الإمكان , فالآلية الأساسية للقسر - أي سحق إرادة الشعوب - أصبحت مكلفة للغاية , إن لم تكن مستحيلة تماماً .
وجوهر الإغواء هو إيهام الآخر بأنه شريك مع الاستعمار الغربي في عمليات الاستثمار , بل وشريك (صغير) في عمليات النهب ومستفيد منها , ويواكب هذا إغواءٌ لأعضاء النخبة عن طريق إفسادهم ورشوتهم , بل وإغواء الشعب نفسه , إما مباشرة عن طريق وسائل الإعلام الغربية , أو عن طريق النخب المحلية , وتصعَّد في الوقت ذاته عمليات تفكيك الدولة القومية كإطار لتجميع القوى الشعبية المختلفة ضد الإمبريالية أو ضد الهيمنة الغربية , وذلك عن طريق المنظمات الدولية وإثارة الأقليات وإثارة مشاكل الحدود ... الخ
وانطلاقاً من ثنائية الأنا والآخر العنصرية الصلبة - كان النظام الإمبريالي القديم يحاول أن يوقف عمليات التحديث في أي مكان في العالم ؛ والتي تحدث من أجل أن يصبح العالم الغربي متقدماً , منتجاً ومستهلكاً , ويصبح العالم الثالث متخلفاً بُدائياً مُصَدِّراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة ومستهلكاً ضعيفاً لبعض بضائع أوروبا . أما النظام الإمبريالي الجديد المزامن لعصر الاستهلاكية العالمية - فيرى أنه من الضروري ترشيد العالم بأسره , وتحويله كله إلى حالة المَصنع والسوبر ماركت ؛ ولذا فلا بد أن تتقدم شعوب الأرض بما فيه الكفاية ؛ لتصبح شبه منتجة , شبه مستهلكة , فالبدوي في صحراء نَجد والهندي الأحمر في براري أمريكا والقروي في الصعيد - يشكلون عائقاً يقف أمام النظام الإمبريالي الجديد المتمثل في الاستهلاكية العالمية ؛ فهم ليسوا في حاجة إلى الهامبورغر أو السيارة أو الفيديو , ومن ثم فلا يمكن تجويعهم أو حرمانهم أو الضغط عليهم ؛ فهم يشكلون ثغرةً في نظامٍ يشبه الآلة ولا يتحمل ثغرات , ويجب أن تكون أجزاؤه جزءاً من الكل الآلي . فمثل هؤلاء الفقراء مستقلون قادرون على الحفاظ على أبنيتهم الثقافية وقيمهم المطلقة وعلى اتزانهم مع الذات ومع الطبيعة , وهذا أمر يهدد النظام العالمي ؛ ولذا , لا بد وأن "يتقدم" الجميع ؛ حتى يدخل الجميع النظام العالمي , ويتم هذا من خلال بيع الأحلام الوردية عن الرخاء الاقتصادي وتعظيم اللذة أو الوعد بها , والتصعيد المستمر للرغبات الاستهلاكية والجنسية , وهو تصعيد يتم من خلال البث التلفازي ووسائل الإعلام الداخلية والخارجية .
ولكن يجب أن يتم "التقدم" تحت مظلة البنك الدولي وصندوق النقد , داخل إطار النظام العالمي الجديد الذي تحكمه بنية التفاوت والمنظومة القيمية الاستهلاكية ؛ ولذا يجب ألا يسمح بإدخال التنمية المستقلة , فهي أيضاً تُحدث ثغرة في النظام الدولي , فهي قد توقف توسع الشركات متعددة الجنسيات , وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولي . وأما التنمية في إطار النظام العالمي الجديد , فإنها ستضمن أن تكون شعوب العالم الثالث نصف منتجة ونصف مستهلكة , حتى يستمر اعتمادها المذل على الغرب , ولا شك أن عمليات تصعيد التوقعات الاستهلاكية , وعملية التسخين - الاستهلاكية الجنسية - التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث , ستجعل من المستحيل تحقيق أي تراكم رأسمالي , وستبدد الطاقة الثورية أولاً بأول , وتختفي الرغبة في السمو وفي الجهاد .
والاستهلاكية العالمية - التي ستحول العالم إلى سوق كبيرة لا يسودها إلا قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة المادية واللذة الحسية التي تؤدي إلى سيادة حالة المَصْنَع في العالم بأسره - هذه الاستهلاكية العالمية وجدت أن من صالحها أن تفتح الحدود , وأن تختفي القيم والمرجعيات تماماً , حتى يفقد الجميع أي خصوصية تُجنّبهم أن يصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية وقطع غيار في الوقت ذاته . ومن هنا كان الحديث عن الديمقراطية بطريقة انتقائية ؛ فهي أداة النظام الاستهلاكي العالمي الجديد في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية المركزية الصغيرة , حتى يتسنى له - النظام الاستهلاكي العالمي - ترشيد البشر وإزالة أي عوائق إنسانية أو أخلاقية , وحتى تصبح كل الأمور متساوية وكل الأمور نسبية ويسود تساوٍ معرفي كامل - هو في واقع الأمر عملية تسوية , وتصفَّى كل الثنائيات , فالأجساد مادة والعقول آليات والعالم عقارات والأوطان فنادق .
وأما ما ينفع الإنسان الطبيعي فهو الانخراط الرحِمي - نسبة إلى الرحم - في المنظومة الآلية , ويصبح الجميع سواسية مثل أسنان المُشْط الأمريكي البلاستيك , فيتخففون من عبء الهوية والضمير والاختيارات الأخلاقية المركبة ! .
ولنلاحظ أن ما تساقط هنا ليس خصوصية قومية بعينها , وإنما مفهوم الخصوصية ذاته , وليس تاريخاً بعينه , وإنما فكرة التاريخ ذاتها , وليس هوية بعينها , وإنما كل الهويات , وليس منظومة قيمية بعينها , وإنما فكرة القيمة ذاتها . وليس نوعاً بشرياً بعينه , وإنما فكرة الإنسان المطلق ذاتها , الإنسان ككِيان مركب , لا يمكن ردّه إلى ما هو أدنى منه . لقد اختفت المرجعية - أي مرجعية - وظهر عالم لا خصوصيات فيه ولا مركز له .