كنت ذات يوم أسير مع صديق ليبي في أحد شوارع لندن عندما قلت له فجأة ما الذي يجعل نظاما كنظام العقيد القذافي يستمر خمسة وثلاثين عاما دون أن يجد من يتحداه في داخل ليبيا؟ ولم أكن أهدف بذلك إلي تحديد موقف من نظام العقيد القذافي بل كنت أريد منه أن يشرح لي الظاهرة من وجهة نظر ليبية. عند ذاك التفت إلي الصديق وقال لو كنت تتحكم في مئة وخمسين مليون دولار يوميا من أموال النفط أو غيرها كما يفعل العقيد معمر القذافي لما سألت هذا السؤال ولعرفت أنه بمقدورك أن تحكم الولاياتالمتحدة وليس ليبيا. وفهمت ما عناه الصديق، ذلك أن توافر الإمكانيات التي يشتري بها الحكام الأعوان والحلفاء هو الذي يمكن لهم أن يسيطروا علي مقدرات الأمور، وليس هذا الوضع سمة العالم العربي فقط بل هو سمة العالم الغربي أيضا، ولكن الاختلاف في العالم الغربي هو أن الحكام يحكمون في إطار القوانين والدساتير ويكونون مقيدين بنظم لا يحيدون عنها. ورأيت في ما قاله الصديق كثيرا من الصدق ولكنه ليس صدقا ينطبق علي الحالة الليبية وحدها بل ينطبق علي الحالة العربية كلها ذلك أن الذي يقعد بالأمة العربية ليس هو عدم الرغبة في التغيير بل عدم وجود الوسائل والمؤسسات التي يتم بها التغيير، وقد كان ذلك أيضا مصدر حوار واسع بيني وبين صديق مصري يتعاطف مع حركة كفاية، فقد وجدت هذا الأخ متفائلا غاية التفاؤل ويعتقد أن حركة كفاية قد أوجدت وعيا جديدا في مصر وان المسألة لا تعدو أن تكون مسألة وقت قبل أن يحدث التغيير المنتظر وعندما قلت له إن ذلك مجرد وهم استشاط غضبا واتهمني بالقصور الفكري في رؤية الكيفية التي تتحرك بها الاحداث في مصر، والحقيقة هي أن الطريقة التي كان يفكر بها هذا الصديق لا تختلف عن الطريقة التي يفكر بها معظم المهتمين بالشؤون السياسية في العالم العربي إذ أنهم يعتقدون أن مجرد تغيير أنظمة الحكم من خلال الشعارات المرفوعة كفيل بتغيير بنية المجتمع، وعندما تقول لهم إن ذلك هو المفهوم الذي ظل سائدا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وأورث العالم العربي نظم حكم عسكرية عقيمة قالوا إن الأمر يحتاج إلي وقت ولن يصبح العالم العربي مثل العالم الغربي بين عشية وضحاها لأن العالم الغربي مر بتجربة طويلة قبل أن يحقق ما حققه ونحن نحتاج لهذه التجربة قبل أن نكون مثله. وهذا أيضا وهم من الأوهام. لأننا لم نبدأ أي تجربة ولا نسير في أي طريق يوصل إلي ما وصل إليه العالم الغربي ذلك أن معظم الأنظمة العسكرية السائدة في العالم العربي جاءت إلي الحكم وهي ترفع شعارات القومية العربية وتحرير فلسطين والتنمية الاجتماعية وصدقها الناس لأنه لم تكن هناك وسيلة للتأكد من حقيقة الشعارات. ولكن هذه النظم لم تفكر في أي هدف من الأهداف التي رفعتها وإنما ظلت تحصر تفكيرها في شيء واحد هو امن الدولة وإقامة دولة المخابرات التي أصبحت سيفا مسلطا علي رقاب أفراد الشعب العاديين ورأينا كل الأنظمة تهزم عسكريا أمام إسرائيل كما رأينا الأنظمة أبعد ما تكون عن شعارات الوحدة العربية التي عندما تحققت بين مصر وسورية حدث الانفصال بعد سنوات قليلة ولم تحدث اي وحدة بين بغداد وسورية بل ظل العداء مستحكما بين الدولتين منذ أن تسلم حزب البعث الحكم فيهما، ورأينا ليبيا تتقلب في الاتجاهات إلي أن كفرت أخيرا بالقومية العربية وزعمت أنها ذات توجه أفريقي وأما الجزائر فلم تعش سوي سنوات قليلة تحت شعار القومية العربية قبل أن تصبح كيانا غير محدد الهوية بعد أن كان العرب ينظرون إليها علي أنها طليعة الكفاح العربي. وإذا تأملنا الصورة الآن لم نشعر بالأسف بكون الحكومات العربية لا تتحمل المسؤوليات الملقاة علي عاتقها، بل لأن الشعوب العربية لم تتمكن من الوعي الذي يبين لها أن هناك بونا شاسعا بين الشعارات المرفوعة وبين الحقائق في عالم الواقع، ويعني ذلك أن الشعارات المرفوعة في عدد من البلاد العربية ومنها مصر علي وجه الخصوص لا تبشر بغد جديد بل هي تنذر بمجيء أنظمة حكم جديدة تعيد ما فعله الآخرون من قبل، ذلك أنه مع وجود شعارات التغيير فإن معظم المجتمعات الغربية لا تعرف كيف تتغير ولا تملك الوسائل التي تجعلها تتغير إذا أرادت ذلك، لأن طبيعة المجتمع العربي طبيعة عشائرية وقبلية وحتي لوكان هناك رئيس أو زعيم يحكم بصورة حديثة فإن حقيقة الحكم من الداخل لا تعكس شيئا سوي أسلوب شيخ القبيلة وهو الأسلوب نفسه المطبق في مصر وسورية واليمن والعراق. حيث السلطة مركزة في يد فرد واحد تعاونه جماعة من الأزلام الذين اشتراهم بمال الدولة فحفظوا له الأمن ويسروا له وسائل الاستبداد والثراء غير المشروع دون أن يكون للشعوب نصيب في خيرات بلادها. ولا يفكر الحاكم في تغيير هذا الوضع لأنه لا يملك الرؤية للتغيير ولا يريده كما أن الشعوب الطامحة للتغيير لا تعرف كيف تغير نفسها وكل ما تستهلكه من فكر إنما يكون مركزا علي أمانٍ أو علي نوستالجيا دينية بأن العودة إلي منابع الدين هي الأساس في تحقيق الحلم دون أن تكون هناك آلية عملية ومجربة للوصول إلي أي حل من الحلول المطروحة. وإذا نظرنا إلي الواقع العربي من هذا المنظور وجدناه واقعا مأزوما وغير قابل للتغيير وحتي لو تغير فهو غير مضمون النتائج، ويخبرنا الواقع في مصر بكثير من هذه الحقائق ذلك أن الرئيس حسني مبارك الذي حكم بلاده خمسة وعشرين عاما مازال يأمل في الاستمرار في حكمه ويرسم له معاونوه الحيل التي يتغلب بها علي العقبات الدستورية كي يهزم خصومه ويحجمهم ومن أجل أن يجعل استمرارية حكمه قانونية ومشروعة وهو لا ينظر في ذلك إلي مصالح الشعب الذي لا يملك الوسائل التي يحاسب بها الرئيس لان القضاء والشرطة والجيش والأعوان الاقتصاديين كلهم في خدمته ورهن إشارته، وبالتالي فإن كل ما يطمح له الرئيس هو أن يحافظ علي امتيازاته وامتيازات بطانته ولا يملك الشعب قدرة علي إزاحته وحتي لو امتلك تلك القدرة فإنها لن تكون ضمانا لأن يحدث التغيير الحقيقي في مصر. وحتي لا يكون حديثنا عاما نقول إن بداية الطريق للتقدم هي أن يمتلك الشعب حريته ولا يمتلكها بالشعارات أو بالانقلابات العسكرية وإنما بالضمان الاجتماعي الذي يعني أن يعمل كل فرد ويدفع ضرائبه المقررة فإذا تعطل عن عمله تكفلت الدولة بكل احتياجاته حتي يعود للعمل من جديد وبهذا الأسلوب وحده يمتلك المواطن العربي حريته وبدون ذلك فإن المواطن العربي يظل يعاني من ثقافة الفقر التي تجعله خائفا طوال حياته وحتي لو تمكن من عمل يدر عليه دخلا كبيرا فهو لا يفكر في شيء سوي النهب من أجل تأمين مستقبله ومستقبل أولاده. ولا يقوم المجتمع فقط علي الجانب الإقتصادي وإنما يجب أن ينال المجتمع التعليم الذي يؤهله بالوعي ولا يكون التعليم فقط بتعميم المدارس وجعلها إلزامية ومجانية لأن المدرسة يمكن أن تكون ضارة كالسجن والمخابرات ووسائل القمع الأخري وهي بدلا من التعليم فإنها تقوم بوظيفة التجهيل وتكليس العقل وتلك وظيفة التعليم في كثير من البلاد العربية إذ أنه لا يطور العقل وإنما يعوده علي التعايش مع المسلمات غير المفكر فيها.. ويحتاج الإنسان إلي جانب ذلك أن يطور واقعه الثقافي بحيث يبتعد من التعصب الفكري واجترار الأفكار النمطية وتلك هي الحالة الغالبة في العالم العربي ذلك أن العالم العربي يعيش علي ثقافة تراثية ميتة يجترها ويعيد إنتاجها ويحكم علي الشعوب الأخري التي تفوقه من خلالها بنظرة دونية لا يبررها واقع الحال أو الواقع الذي يعيشه العالم العربي. ومؤدي قولنا أن التغيير في العالم العربي وفي مصر علي وجه الخصوص لا يحتاج فقط لحركة كفاية لأن مثل هذه الحركات حتي لو نجحت فهي ليست قادرة علي تغيير المواقف وإنما يحتاج العالم العربي إلي معرفة بالنظم التي غيرت العالم حقيقة وتبنيها من خلال نظم حرة وليس من خلال شعارات تعلنها وترددها أنظمة عسكرية هي سبب الكارثة الحقيقية في العالم العربي. واذا نظرنا إلي الواقع المصري وجدنا ان حركة كفاية ما هي إلا تعبير عن الحلم ولكنه حلم لا يتحقق في إطار غير قابل للتغيير. -------------------------------------- جريدة القدس العربي