"إذا كان البعض أقام حساباته على أساس افتعال فتنة أو انتظار حرب في لبنان لكي يعيش عليها ومنها ويبني أمجادا عليها فهذا زمن ولى". هذا الكلام الذي نضعه بين مزدوجين هو إقتباس حرفي لما خرج من فم غازي العريضي بعيد إجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت، وبعد أن أشعرني السنيورة بأنه سياسي لا يدرك معنى الهزيمة والنصر في معارك بلده كما يجب أن تكون عليه القيادة السياسية لبلد مقاوم وشعب يقدم التضحيات في ظل تعددية وديمقراطية لا يجبر فيها أحدا على قول ما يقوله بعد هدم بيته وإفتقاد عائلته...
كلام العريضي الذي جاء في سياق المؤتمر الصحفي الذي أعقب هذا المجيء والسفر "السريع" للسادة الوزراء تحت ضربات القاذفات التي تشبه ما يملكونه والتي يبدو أن لا عمل لها إلا العروض وفتل العضلات في الاعياد الرسمية لتنصيب هذا وذاك من "الزعماء"( الاخيرة ليست تسميتي... بل غلمان الانظمة يختارون لهم تسمياتهم)...هو كلام خطير للغاية... إذ لا نحتاج لفك الاحجية فإننا نعرف لمن وُجهت هذه الكلمات... فالعريضي وما يمثله من خط "سياسي" يحدده معلمه ويفرضه على جزأ من الشعب اللبناني من خلال تحالفات تفوح منها رائحة الدم ، فالعريضي لا يرى في المخطط الصهيوني ما يتعارض وذلك الحلف الذي يضم في صفوفه لوردات حرب تحولوا الى ساسة بعد ان استبدلوا ملابسهم وعقولهم ومبادئهم مثل تبديل أي شخص لحذائه.. من يقصد غازي العريضي حين يقول "البعض"... ثم هل يحتاج لبنان حقا لمن يفتعل له فتنة في ظل وجود هذه النماذج السياسية التي تشتغل على مدار الساعة لاصطياد الفرصة السانحة لإعادة البلد إلى مربعه الاول الممتد على الاقل منذ 1958 وبنفوذ امريكي غربي أوضح من أن يجري التعمية على الاهداف المتوارثة... فلبنان الفتنة لا يحتاج( وهنا نقصد ساسة التوارث المشيخي والالقاب الاخرى من الزعامة إلى القيادة وما بينها من نفخات كاذبة) إلى الكثير في ظل وجود الدولة الصهيونية وتحالفاتها الداخلية المباشرة والغير مباشرة لأفتعال "فتنة"... فالبرامج السياسية التي كان يبيعها هؤلاء لأبناء البلد كانت دائما تتحدث عن أشياء أخرى غير تلك التي يعتبرها الان "غير عقلانية" بعد فترة التعقل والرشد الذي يدعيه هؤلاء الذين توارثوا ما توارثوه من ألقاب...
"صناعة الحرب الاهلية" هي مهنة إمتهنها لوردات الحرب الذين تصوروا منذ إستقلال لبنان أنهم قادرون على فرض مصالحهم وزعامتهم من خلال إتهام الاخر العربي في ظل تزايد وضوح صورة النفوذ الامريكي والاهداف الاسرائيلية في هذا البلد الذي يجري تدميره بطريقة حاقدة حقدا تاريخيا على أي تقدم عربي مهما كان بسيطا... فجأة ، وبعد إنعقاد مؤتمر رفع العتب وحفظ ماء الوجه المشوه للسياسة العربية، صار للبعض لسانا يلقي علينا كلاما يحمل في طياته بذرة خطيرة لمرحلة أخطر بعد أن أثبتت السواعد المقاومة قدرة تفوق قدرة أصحاب النياشين الكاذبة على مواجهة العدو الحقيقي للبنان وبقية العرب... البذرة التي نتحدث عنها هي تلك التي عمل الاسرائيلي طيلة السبعينات والى العام 83 من القرن الماضي لفرض لبنان آخر، وعاد اليوم متحالفا مع الامريكي ليغير وجه المنطقة من البوابة اللبنانية بوجود عناوين محلية واقليمية إعتقدت بأن المهمة سهلة التحقق خلال أيام معدودة، فخاب ظنهم حين ترسخت عقلية أخرى مقاومة ورافضة لكل الخنوع والميوعة التي يتعامل بها بعض هؤلاء مع تدمير البلد والمذابح التي تقوم بها قوات صهيونية رمى البعض عليها السكاكر والارز في اجتياح 82 وهم يوجهون بنادقهم نحونا لطردنا والحوامات الاسرائلية تحاول إصطيادنا...
هؤلاء، ومنهم غازي العريضي، لم يفارقوا دمشق ولا أجهزة الدولة السورية للحصول على المزيد من الامتيازات ولممارسة التدليس السياسي والامني قبل أن تتضح صورة النفاق والانقلاب الذي مارسوه ظنا منهم بأن العصر القادم هو عصر أمريكا وإسرائيل... وعلى هذه الخلفية يبقى العريضي وفيا لمعلمه الذي يصر على أنقاض الدمار الذي أصاب جنوب البلد وضاحية العاصمة وكل البنية التحتية ترديد كل الهراء عن المسؤولية والمحاسبة القادمة ... وترديد ما يقوله الاسرائيلي عن هذه الحرب الدموية على لبنان وأسبابها، إذ يريد هؤلاء كما يريد قادة الهزيمة الصهيونية أن يقنعوا المتلقي الغربي بأنهم لا يحاربون "حزب الله" ولا المقاومة اللبنانية التي تهزمهم بل يحاربون سوريا وإيران... هذا الكلام هو في سياق تبرير الهزيمة، على كل هذا ليس عارا بل فخرا لكل عربي إن كانت الصهيونية في بداية الاعتراف بالهزيمة امام السوريين، لكنه حين يتردد على لسان لبناني فهو يعني نزعا كليا لوجود مقاومة وطنية ... وهو ما يذكرنا بالحالة العراقية التي أرادت سياسة العمالة أن تبيعنا بضاعة تقول : هذه مقاومة مستوردة وليس هناك في العراق من العراقيين من يقاوم! هو ذات الامر الذي يؤسس له بعض ساسة لبنان "العقلانيين" في تصنيفهم وتعريفهم لما يجري على أرضهم باتهام الاخر العربي كنوع من التغريد في معسكر رايس وبوش للتحريض على سوريا كما فُعل بُعيد إجتياح العراق... لكنهم وللأسف الشديد يتناسون بأنه في سوريا أكثر من 600000 لبناني من الذين أُجبروا على الرحيل عن قراهم وبلداتهم تحت وابل المذابح كما حدث للشعب الفلسطيني في نكبة 48... يتناسون بأنهم لم يقدموا إلا خطابا يؤسس لتمزق داخلي لا يحتاجه البلد بقدر ما يحتاج إلى وحدة كاملة أو صمت كلي من غير القادرين على المساهمة في تعزيز صمود بلدهم بوجه ما يُحاك له من إستبدال إحتلال بإحتلال دولي... أو بفتح الجبل ومعقل "المعلم" لهؤلاء الذين أُجبروا على النزوح بعد فقدان كل ما يملكونه من ممتلكات واحباء بدل نشر عصابات النهب التي تناقلتها حتى التقارير الغربية...
لست هنا لأدافع عن السيد وليد المعلم وزير الخارجية السوري، لكنه لزاما علينا أن نُذكر العريضي بأنه ليس من الكياسة بشيء هذا التهكم السخيف حين سُئل عن تصريحات المعلم في بيروت ليجيب بطريقة تنم عن الحجم الحقيقي للعقل التآمري الذي يريد أن ينخر بجدران صمود البلد وشعبه بتوعده بشكل مبطن لما سيحمله الزمن اللاحق لهذا الدمار الذي أحدثته آلة الدمار المعروفة العنوان... فهل يستطيع حلفاء واشنطن المحليين أن يخبرونا عن الموانع التي تمنعهم من قول شيء لبوش او رايس عن الاسلحة والجسر الجوي المستمر لصواريخ التدمير التي تصيب شعبهم؟! ثم لماذا لا يُذكروا بوش بأن لبنان بلدا ديمقراطيا بدل إبتياع خطاباته السخيفة عن إرساء الديمقراطية في لبنان، أم أن هؤلاء (ومنهم الشيخ الطائر) باتوا يحسبون ألف حساب لما ستحمله الديمقراطية الحقيقية التي سيحاسب من خلالها هذا الشعب كل من لعق قطرة من دمه النازف؟!