وسائل الإعلام الأمريكية تعتم على الخبر تماماً حتى أثاره أصدقاؤه بقوة على الإنترنت
http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/AmrekyyahreknafshE7tjajunalaAlharb.htm عندما أحرق الراهب البوذي الفيتنامي ثيش كوانغ دك نفسه احتجاجاً على النظام الفيتنامي الجنوبي المدعوم أمريكياً في أحد شوارع سايغون عام 1963، انتشرت صورته كالنار في جسده في مختلف وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية. ومنذ ذلك الحين، تحولت وسائل الإعلام الأمريكية أكثر وأكثر إلى غولٍ جشعٍ لاستهلاك وإنتاج الأخبار المثيرة، السطحية منها بالأخص، وذات المغزى أحياناً... فالتنافس على السبق الإعلامي بينها يعادل الصراع على المادة الخام القابلة للتحويل في ظل العولمة الإعلامية إلى ما يسميه خبراء الإعلام Info-tainment، أي الترفيه الإخباري، وهو مصطلح مركب من كلمتي معلومات Information وترفيه Entertainment، لوصف نزعة وسائل الإعلام الأمريكية لتحويل الأخبار والأحداث إلى مسلسل ترفيهي يجتذب المشاهدين.
ولعل التنافس التجاري بين وسائل الإعلام المنتشرة بالآلاف العامل الأهم في بروز ظاهرة تسطيح الأحداث وإفراغها من مضمونها لتحويلها إلى إثارة. ولكن في النهاية لا تنفصل وسائل الإعلام عن بنية المجتمع والاقتصاد والسلطة، وبالتالي عن تحيزات ومصالح تلك البنية. وعندما قام مواطن أمريكي اسمه مارك ديفيد ريتشر، ويلقب مالاكاي ريتشر Malachi Ritscher، بحرق نفسه في وسط البلد في 3/11/2006 في مدينة أمريكية كبرى هي مدينة تشيكاغو، أمام نصب فولاذي عملاق يحمل اسم "شعلة الألفية"، احتجاجاً على الحرب على العراق، قبيل الانتخابات النيابية بأيام، فتجاهلت وسائل الإعلام الأمريكية ذلك الخبر تماماً، علق كثيرٌ من مناهضي الحرب على العراق بأن ذلك التجاهل الغريب لاحتجاج مالاكاي ريتشر على الحرب كان يسير عكس المصلحة التجارية أو التنافسية لشركات الإعلام الأمريكية، ومع مصالحها السياسية المرتبطة بالنظام الأمريكي. فليس من المعقول أو المنطقي أن تترك مئات وسائل الإعلام الأمريكية المتنافسة على السبق الإخباري قصة احتراق مالاكاي تمر هكذا دون استثمارها، ولو بشكل سطحي، إلى الحد الأقصى!
ولم يكن مالاكاي ريتشر من الأقليات مثلاً أو شخصاً غير معروف. بل كان يعتبر من الفئة المحظوظة في الولاياتالمتحدة، فهو مواطنٌ أبيض، في الثانية والخمسين من عمره عندما أحرق نفسه، وكان معروفاً في مدينة تشيكاغو كعازف لموسيقى الجاز، وكمهندس تسجيلات موسيقية، وكناشط بارز في حركة مناهضة الحرب على العراق. وكان معروفاً لمئات الناس على الأقل، وسبق أن اعتقل في 20/3/2003 يوم بدء الحرب على العراق، ثم مجدداً في 2005، خلال إحدى التظاهرات ضد الحرب، وقد كسب دعوى قضائية ضد الدولة بعد الاحتجاز الثاني باعتباره اعتقالاً غير مشروع.
وعندما أحرق مالاكاي ريتشر جسده احتجاجاً على الحرب على العراق والنظام السياسي الذي أنتجها، كما يقول في الرسالة الأخيرة التي تركها على موقعه على الإنترنت، فعل ذلك أمام نصب "الشعلة الألفية" صبيحة يوم 3/11/2006 في وسط البلد في عز زحمة السير الصباحية. ولكن باستثناء خبر قصير من بضعة أسطر في الصفحات الداخلية لجريدة تشيكاغو سن-تايمز Chicago Sun-Times يوم 4/11/2006، يوحي بأن معتوهاً ما أحرق نفسه في وسط البلد، فإن وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية تجاهلت الخبر بصورة مثيرة للريبة على حد وصف أصدقاء وأنصار ريتشر، أي بتعبير أوضح، بصورة تكشف التحيز السياسي لوسائل الإعلام عندما تخرج المعارضة في الشارع عن النص المكتوب من قبل النخبة الحاكمة.
ومرت أسابيع، وبدا وكأن وسائل الإعلام الأمريكي نجحت بقتل الرسالة السياسية لاحتجاج مالاكاي ريتشر ضد الحرب على العراق عن طريق تجاهل ما قام به تماماً. ولم نسمع نحن في الوطن العربي عن الحدث، بالرغم من أنه مثل علامة بارزة في تفكك التأييد للحرب في الشارع الأمريكي، حتى قبل استعادة الديموقراطيين للأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.
وشرع أصدقاء وأنصار ريتشر يخططون لنشاطات في مدينة تشيكاغو رداً على تجاهل وسائل الإعلام للاحتجاج الحارق ضد الحرب صبيحة يوم 3/11/2006. وحدثت بالفعل احتجاجات في الأسبوعين الأخيرين من شهر ت2 نوفمبر على ما يبدو لم تنل قسطاً كبيراً من الاهتمام الإعلامي أيضاً، سوى أنها نجحت بطرح القضية على المستوى المحلي. ولكن عصرنا هذا هو أيضاً عصر الإنترنت، عصر الفضاء الافتراضي المفتوح، وشبكة الإنترنت خارجة عن سيطرة القوى المهيمنة في النظام الدولي الجديد أكثر بكثير من الفضائيات. ومن هنا انطلقت حملة شعبية شبه عفوية شبه منظمة على الإنترنت لطرح قضيتين مترابطتين: 1) احتجاج مالاكاي ريتشر وتجاهله من قبل وسائل الإعلام، و2) الاحتجاج ضد الحرب على العراق.
واشتعلت معركة في الفضاء الافتراضي، وبدأ عشرات آلاف الناس يناقشون قضية احتجاج مالاكاي ريتشر ضد الحرب على العراق، ولم يعد بإمكان وسائل الإعلام الرئيسية، أو بعضها على الأقل، أن تتجاهل الأمر. ثم بدأت الحملة المضادة، على الإنترنت أيضاً، ضد مالاكاي ريتشر، وبعد شهر تقريباً، أي في 2/12/2006، بدأت تظهر القصة في بعض وسائل الإعلام الرئيسية، ولكن دوماً بسرعة، وبشكل "موضوعي متوازن" على الطريقة الأمريكية، أي بشكل يعطي وزناً متساوياً لمن يقولون أن مالاكاي ريتشر كان "مجنوناً" و"مريض نفسياً" "يعيش وحيداً ولا يعرف أحد ماذا يدور برأسه"، ومن يقولون من أصدقائه أنه كان صديقاً عطوفاً كريماً ومثقفاً وقارئاً جيداً وشخصاً لا حدود لالتزامه السياسي.
المهم أن الزخم الشعبي أعاد طرح قضية مالاكاي، ومعها الموقف من الحرب على العراق، على بساط البحث، ولو بعد حين، وثمة مئات من الرسائل على النت اليوم التي تتناول قضية مالاكاي، وعشرات المناظرات الحامية حوله على المواقع الأمريكية، وقد أقام أنصار مالاكاي ريتشر موقع إنترنت خاص به يحمل عنوان "لقد سمعناك يا مالاكاي"، وتجدونه على الرابط التالي: http://www.iheardyoumalachi.org/story.html
وهناك صفحة على موسوعة ويكيبديا، أكبر موسوعة شعبية على الإنترنت، تتضمن قصته والعديد من الروابط المتعلقة بها، ولكنها تتناول احتجاجه من زاوية صحته النفسية أساساً، والتشكيك بها، وتجدونها على الرابط التالي: http://en.wikipedia.org/wiki/Malachi_Ritscher
ومن الملفت للنظر أن المناهضين لمالاكاي ريتشر يستغلون شهادة ابنه المشككة بصحة أبيه النفسية، ويبدو أنهم قاموا بنبش وتضخيم تاريخ كل مشاكله الشخصية في محاولة لتشويهه وإفقاده المصداقية، فمرة يتهم أنه تعالج من الإدمان على الكحول عام 1990، كبوش الابن من قبله مثلاً، ومرة يتهم بأنه كان على علاقة سيئة مع عائلته فاستعاض عنها بمئات المعارف وعدد من الهوايات والمهارات المتميزة، لتسخيف علاقاته الواسعة ومواهبه المتعددة...
على كل حال، حتى في أمريكا، من الغريب أن يتحدث ابنٌ عن أبيه هكذا عند موته. أنصار ريتشر يقولون أنه "شهيد السلام ومعارضة الحرب"، ومناوئوه يقولون أنه "معتوهٌ انتحر"، ولا شك أننا في ثقافتنا العربية الإسلامية لدينا وسائل أخرى، غير حرق الذات، للاحتجاج على الظلم حتى الموت عندما نصمم على الشهادة. ولكن هذا المعارض السياسي، القادم من مجتمع وثقافة أمريكيين، أعطى زخماً قوياً لحركة مناهضة الحرب في بلاده، وقد ترك على موقعه على الإنترنت رسالة طويلة تشرح دوافعه بهدوء وذكاء وعمق، وبمسحة روحية متسامية غير متشددة، ولا يسمح المجال هنا بترجمتها كاملة ولكنها موجودة على الرابط التالي: http://www.savagesound.com/gallery99.htm
وكان مما جاء فيها: "تقولون باسم الله والوطن...!! ماذا حدث لبلادي؟! لقد أصبحنا أسوأ من العدو المتخيل ونحن نقتل المدنيين مسمين ذلك ضرراً مصاحباً أو مكملاً [للعمليات العسكرية]، ونحن نمارس التعذيب، وندوس على حقوق الإنسان داخل وخارج حدودنا، ونحن ننتهك دستورنا عندما يناسبنا ذلك، ونحن نكذب ونسرق يمنةً ويسرةً، ونحن أكثر اهتماماً بمتابعة المباريات الرياضية على التلفزيون وبنوع الأنغام التي نضعها على هواتفنا النقالة منا بمستقبل العالم...".
ويضيف: "أنا أيضاً أحب الله والوطن، وأشعر بنداء الواجب، ولكني آمل فقط أن تكون تضحيتي الخاصة أكثر قيمة [عندكم] من تلك الأرواح الشجاعة التي أزهقناها عندما هاجمنا بلداً عربياً تحت خديعة أسلحة الدمار الشامل. إن تدخلنا حطم ذلك البلد تماماً، وزعزع استقرار المنطقة بأسرها، وكل من يدفع الضرائب [منكم] ثمة دماء على يديه".
وفي حكمة ما أزمع القيام به يقول: "كثيرٌ من الناس يرى أنني لا يحق لي أن أختار موعد وطريقة موتي. ولكنني أرى أن المرء لا ينال في عمره إلا ميتةً واحدة، ولذا أريدها أن تكون ميتةً جيدة"...