100 عام قد مرت على ثورة 1919، تلك الثورة التي كانت حلقة من جهاد المصريين ونضالهم ضد المحتل، واستكمالا لمشوار البحث عن استقلال البلاد. وبعيدا عن استعراض أحداث ثورة 1919 والتعرض لأسبابها ونتائجها، فإن هناك سؤالا يطرح مع ذكرى كل ثورة في تاريخ مصر، سواء كانت ثورة أحمد عرابي أو ثورة 1919 أو ثورة 1952 أو ثورة 25 يناير. وهذا السؤال يتناقض كثيرا مع المناسبة التي دائما ما يطرح فيها. السؤال الذي يتزامن مع مناسبات ثورية هو: لماذا لا يثور المصريون؟ وهل ما يقال بأن الشعب المصري لا يثور ويألف الظلم حقيقة تاريخية؟ العديد من الكتاب الذين أصابهم الإحباط بعض الانقلاب، راحوا ينهشون في سيرة وتاريخ الشعب المصري، ويروجون لأقوال من عينة أن الشعب المصري شعب غير ثائر بطبعه. وللأسف، فإن كل من روج لهذه الأكذوبة هو من أولئك الذين يتصدرون المشهد وتفتح لهم قنوات ومواقع تحسب نفسها على معسكر الثورة، تفتح لهم الباب أمام نشر مثل هذه "المثبطات". المصريون والثورات يستشهد البعض في إطار ترويجه لمقولة الشعب المصري لا يثور، إلى ما ذكره العلامة المؤرخ تقى الدين المقريزى في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" المعروف باسم خطط المقريزي أو الخطط المقريزية، أو كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" عن المجاعات التي حصلت في مصر دون أن يحاول الشعب الثورة على الحاكم. كما يستشهدون دوما بالشدة المستنصرية وسكوت المصريين على حالهم فيها. لكن، تغافل هؤلاء عن مجموعة من الحقائق التاريخية المثبتة في كتب العديد من المؤرخين، عن الثورات ومحاولات التمرد والعصيان المدني التي نفذها المصريون خلال تاريخهم. هذه المحاولات التي جمعها الكاتب الصحفي المجاهد مجدي أحمد حسين، رئيس تحرير جريدة الشعب ورئيس حزب الاستقلال، والأسير في سجون النظام على خلفية قضية نشر، جمعها في كتاب أصدره إبان ثورة 25 يناير. الكتاب الصادر عن دار الفكر العربي، عام 2001، اسمه "مدونات ثورية لشعب مصر خلال 200 عام". وقد كتب مجدي حسين هذا الكتاب وقت أن قابعا في سجون مبارك، في أواخر حكم المخلوع، بتهمة التضامن مع غزة!! وركز كتاب "مدونات ثورية " على فكرتين رئيسيتين : الأولى هي تفنيد الشائعة الغريبة القائلة بأن الشعب المصري يحب الظلم ولا يثور. وقد كتب مجدي حسين هذا الكتاب في أواخر 2009 أى قبل ثورة 25يناير. وأكد أن الشعب المصري ثائر بطبيعته وسبق أن أشعل ثلاث ثورات فى 14شهرا تحت قيادة الزعيم عمر مكرم ضد خورشيد ثم البرديسي ثم ضد الحملة الفرنسية. وفى عام 1879 طردت الحكومة 25 ألف عسكري مصري فقام هؤلاء الجنود بثورة هائلة اقتحموا فيها مجلس الوزراء وضربوا نوبار باشا رئيس الوزراء آنذاك ثم قامت بعدها الثورة العرابية. وفى العصر الحديث الشعوب تثور كل جيل أو كل جيل ونصف، والشعب المصري شأنه شأن غيره من الشعوب، ففي 90سنة قام المصريون بثلاث ثورات، ثورة 1919، وثورة 1952 (يرى مجدي حسين أن الثورة الشعبية كانت في 1951 وانضم لها الجيش فى 1952، لهذا يطلق عليها مجدى أحمد حسين ثورة 1951/1952)، وثورة 2011. الفكرة الثانية هي قضية التنمية، فقد أكد مجدي حسين أن مصر من 200 سنة كان لديها فائض فى ميزان المدفوعات وكان اقتصاد مصر مثل اقتصاد فرنسا وأحيانا أفضل منه خاصة فى عهد محمد على. وكيف كانت مصر مكتفية زراعيا وصناعيا بل وتصدر إلى أوروبا. وكيف جهز محمد على الأسطول المصري فى عشرة أشهر بينما الآن تجد النظام الحاكم يردد دائما أن مصر أفلست. وتساءل مجدى حسين كيف يمكن لقائد ترديد مثل هذا الكلام فهذا دليل على الفشل فمصر من أغنى البلاد والتنمية لن تحتاج لمدة طويلة فها هو محمد على جهز أسطولا حربيا فى 10 شهور وخلال 20 سنة حصلت هذه النهضة الرهيبة التى شارك فيها رفاعة الطهطاوي بالترجمة . ماذا ينقص المصريون؟ يقول مجدي حسين في كتابه إن العصيان المدنى أو الثورة الشعبية السلمية ليست غريبة على الشعب المصرى، ولكن ذلك ارتبط تاريخيا بوجود قيادة شعبية مقنعة ومخلصة، وهذا شرط أساسى لقيام ونجاح أى ثورة شعبية، وهذا قانون عام لكل البلدان، ومصر ليست خارجة عن هذا القانون، (على خلاف ما يدعيه أو يتصوره البعض). وهذا أول مثال، فى مارس عام 1804 قامت ثورة شعبية ضد حكم المماليك الظالم، وأخذت تشتد وتقوى، وانتهت بسقوط دولتهم، وقد ازداد تذمر الشعب من كثرة وقوع المظالم وإرهاقه بمختلف الضرائب والمغارم (لاحظ أن الشعب مصر يعانى فى 2019 من كثرة الضرائب والإتاوات والغرامات) وهذا قانون عام آخر فالأنظمة المتهاوية الفاسدة، لا تهتم بالإنتاج، ولكن تهتم بالجباية حتى ترهق الناس وتمتص دماءهم فيثورون عليها. كذلك تعددت اعتداءات المماليك على ما فى أيدى الناس من الأموال والغلال والمتاع. شكى الناس إلى كبار العلماء: عمر مكرم نقيب الأشراف والشيخ الشرقاوى وغيرهما، فذهب العلماء إلى البكوات المماليك، وأنذروهم بمنع اعتداء العساكر على الناس. فأعلن المحافظ ورئيس الشرطة أنهما مع الشعب ووعدا بوقف ذلك، ولكن الوعود لم تنفذ، بل عندما طالب الجنود بالرواتب المتأخرة فرض الحاكم (البرديسى) ضرائب على التجارة ثم على العقارات (لاحظ قانون الضرائب العقارية فى 2010). امتنع الناس عن دفع الضرائب، وخرجوا من بيوتهم يضجون ويصخبون واحتشدوا فى الشوارع حاملين الرايات والدفوف والطبول (لم يأخذوا إذنا من الشرطة للتظاهر!!)، وأخذوا يستمطرون اللعنات على الحكام, وكانت هتافاتهم مركزة على المسئول الأول: إيش تأخذ من تفليسى يا برديسى. وأغلق التجار وكالتهم ودكاكينهم (إضراب عام) واتجهت جموع الناقمين إلى الأزهر (لم يكن قانون منع التظاهر فى المساجد قد صدر!!) لمقابلة المشايخ والاحتجاج لديهم على الضريبة الجديدة، فقام المشايخ إلى الأمراء المماليك يطلبون إلغاءها (لم يكن علماء الأزهر يعتبرون أنفسهم موظفين عند الدولة) وأخذت روح الثورة تنتقل من حي إلى حي حتى عمت القاهرة. واستولى الشعب على الميادين والشوارع، وتحولت المساجد إلى ملتقى لاجتماعات الجماهير، وبدأت الجماهير الغاضبة فى مطاردة جباة الضرائب وإلقاء القبض عليهم وقتلوا بعضهم (لا يخلو أى احتجاج مدنى من بعض مظاهر العنف). ولكن البرديسى ظل متصلبا فى موقفه، بل قرر مضاعفة الضرائب ب3 أمثال. ولم يستوعب الحقائق الجديدة، فقد خرج المارد من القمقم. وانحاز محمد على بقواته الألبانية للشعب وحاصر المماليك. وهذا قانون آخر للثورات، أن نجاح الثورة يرتبط بانحياز الجيش أو جزء منه للشعب. وفر البرديسى وباقى زعماء المماليك من القاهرة، وهرب جنود المماليك وراءهم، وتوقفوا عن ضرب القاهرة بالمدافع.
ووصف الجبرتى حالهم: (غلب عليهم الخوف والحرص على الحياة والجبن وخابت فيهم الظنون، وذهبت نفختهم على الفارغ، وجازاهم الله ببغيهم وظلمهم وغرورهم ونزل بهم ما نزل ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). وقد كانت هذه الصحوة الشعبية امتدادا للثورات ضد الاحتلال الفرنسي والمقاومة التى لم تهدأ على مدار 3 سنوات، والتى قادها أيضا كبار العلماء. ولكن أهمية ثورة 1804 أن الشعب تعلم أن الثورة لا تكون ضد الاحتلال الأجنبى والظلم الأجنبى فحسب، بل إن ادعاء الحاكم أنه مسلم أو مصري لا يعطيه أى مبرر أو شرعية لممارسة التنكيل والظلم، فالظلم لا جنسية له ولا دين.