فى بلاد الواق واق !!، جلس الضابط محمود عزيز ، ينفس دخان سيجاره فى تلذذ وهو يراقب حلقات الدخان المتصاعد أمام عينه حتى تتلاشى أمام نسمات الهواء البارد القادم من المكيف. كان فى حالة إنتشاء وشعور طاغى بالنشوة بدت عليه وهو يرفع قدميه على حافة مكتبه، ويؤرجح كرسيه الذى طالما حلم بالوصول إليه، لم يكن يصدق أن تتم ترقيته أخيرا ويصل إلى هذا المنصب الأمنى الرفيع. أخذ يتطلع فى فاصل من أحلام اليقظة إلى حياته الجديدة إنه يومه الأول فى منصبه الجديد، لقد إستعد له جيدا، نظارات قاتمة اللون لإضفاء طابع من الغموض والرهبة، سيارة فارهة بزجاج فاميه لإضافة المزيد من الإثارة والأهمية على راكبها، نمر سوداء لتجنب إزعاج دوريات المرور، طقم بدل جديدة تناسب أهمية منصبه الجديد. فجأة وهو على هذا الحال رن جرس الهاتف بجواره فانتبه من احلامه وكاد يسقط من على مقعده الذى يؤرجحه، التقط السماعة سريعا، فإذا به رئيسه فى العمل يقول له ( صباح الخير يا محمود، مبسوط يا محمود، شد حيلك عاوزك تكون نموذج مشرف، إنت لسه مستقبلك قدامك )، شعر محمود بسعادة غامرة تجتاحه من كلمات رئيسه وأخذ يشكره عليها ويقول له ( إحنا تحت أمر سعادتك، إن شاء الله أرفع راسك أكتر ما هى مرفوعة، ده شرف كبير لينا نشتغل تحت أمرك ) إنتهى الحوار سريعا مع رئيسه، لكن تأثير المكالمة كان طاغيا عليه، كاد أن يقفز من على الأرض من شدة الفرح. وهو فى هذه الحالة رن الهاتف مرة أخرى فجاءه صوت ضابط فى رتبة أقل يقول له ( محمود بيه، فى مظاهرة عملينها العيال بتوع المعارضة فى الميدان ضد الحكومة، أوامرك ؟)، استشاط غاضبا لإزعاجه بهذا الخبر الذى أخرجه من النشوة التى كان فيها، لكنه تمالك نفسه وقال للظابط وهو يضفى على صوته لهجة وقورة تناسب مقامه الجديد( ابعت قوات مكافة الشغب، دلوقتى وامنعوهم من الحركة احسن عددهم يزيد، بسرعة مش عاوز تضييع وقت، ولو حد من ولاد ( .... ) زودها شوية اعتقلوه فورا، وبلغنى بالتفاصيل أول بأول ). شعر بقلق بالغ يعتريه، وأخذ يكلم نفسه، إنه يومه الأول فى منصبه الجديد، وتحدث هذه المشكلة، لا يمكن أن أفشل فى إدارة هذا الموضوع، أخذ يقطع الحجرة ذهابا وإيابا، طلب كوبا من القهوة، سرعان ما جاءته، أخذ يشرب السيجارة الواحدة تلو الأخرى، ولم ينجح المكيف فى إخفاء الدخان الذى ملأ الغرفة، لم يعد ينتظر أن يتصل بيه الضابط بل سارع هو للإتصال به، سأله عن الجديد قال له الضابط مرتبكا ( القوات ) فى طريقها إلى المكان يا محمود بيه، إنفجر فى وجهه قائلا، القوات لا تزال فى الطريق، وأخذ يسب ويلعن بشتائم وألفاظ نابية أصبحت إعتيادية فى عالمه، مستنكرا تأخر القوات فى الوصول للميدان، رن جرس الهاتف الآخر فإذا به رئيسه فى العمل، أقفل السماعة فى وجه الضابط، وبدأ يحادث رئيسه فى ليونه ووداعه من جديد، لكن لهجة رئيسه لم تتجاوب مع وداعته وكان باديا عليه الجدية وهو يقول ( فيه ايه يا محمود فى تقارير وصلتنى إن فى مظاهرة فى الميدان من ساعة ولسه لم يتم السيطرة عليها، إنت كده هتغير فكرتى عنك ) شعر محمود بقلق وخوف هائل، وهو يرد على رئيسه فى فزع يرمى بالمسئولية على الضابط والقوات التى لا تزال فى الطريق) جاءه صوت رئيسه قاطعا كلامه ( أول درس ليك وأتمنى ألا يكون الأخير كذلك!!، نحن لا نقبل الأعذار أو المبررات إحنا بنفكر بس فى النتائج وبنقيّم على أساسها، هاتصل بيك كمان شوية وشوفك عملت إيه ). جن جنونه، خرج من مكتبه مسرعا، غير عابىء بمن يسلم عليه، إستقل السيارة متوجها إلى الميدان ليشاهد الأمر على طبيعته، كاد أن يصطدم بأكثر من سيارة وهو فى طريقه مضطرب القلب، واجس النفس، تجاوز كل إشارت المرور، شاهد القوات وهى فى طريقها إلى الميدان، إحمر وجه أكثر حتى تجاوز سيارت الأمن ووصل قبلهم إلى موقع المظاهرة، كان المتظاهرين قد أنهوا وقفتهم وانصرفوا، فاستولى عليه الخوف، ما الذى حدث ؟!، هل إنتهت المظاهرة هكذا ببساطة دون تدخل من الأمن؟، شعر بيأس بالغ يستولى عليه، ماذا سيقول لرئيسه؟، المظاهرة إنتهت بدون ردع !!، هل سيكون يومه الأول فى العمل هو يومه الأخير ؟!، أخذت الأفكار السوداء تجتاحه وبينما هو على هذه الحالة، إستيقظ شيطانه وقال له إنه مستقبلك، جاهك، سلطانك، إياك أن تضيعهم، فكر فى حل فأنت أذكى منى فى ذلك!!. أخذ ينظر من زجاج سيارته وهو يتلفت يمينا ويسرة يبحث عن حل ينقذ به مستقبله، فإذا بفكرة شيطانية تلمع أمام عينيه، خرج من السيارة مهرولا، توجه إلى أحد سيارات الأجرة طلب من سائقها النزول، عرف نفسه له، شعر السائق بالخوف يجتاحه، شعر محمود بالرضا من حالة الخوف التى أصابت السائق، قال له فى لهجة مخيفة فزع لها السائق ( أنا عاوزك تملى عربيتك ناس دلوقتى، شوف أى خط مواصلات زحمة ونادى على الناس علشان توصلهم هناك، وأنا همشى قدامك بعربيتى وأنتى خلفى، تفضل ما شى ورايا لغاية المكان اللى أنا رايحه، بسرعة فورا قبل ما تروح ورا الشمس ). إنطلق السائق فزعا ينادى على الركاب وينفذ التعليمات والركاب تتصارع فيما بينها على من يحجز مقعد بعد أن أعياهم الوقوف، وأخذت المشادات تحدث بينهم، والسائق يسب ويلعن ويأمرهم بالإسراع، حتى أمتلأت السيارة فوق طاقتها بكثير، وأحمد يراقب المشهد من بعيد فانشرح صدره، وأخذ يتحرك بسيارته وسيارة الأجرة تسير خلفه حتى إنحرف عن الطريق متجها إلى مقر عمله الجديد، فانحرفت سيارة الأجرة خلفه، شعر ركاب السيارة بالدهشة من إنحراف خط السير، أخذ كل واحد من الركاب يتطلع فى عين الآخر، منتظرا أن يسأل أحدهم السائق عن سبب تغيير خط السير المعتاد، لكن ظل الصمت سيد الموقف، حتى وجدوا أنفسهم فجأة يخرجوا عن الطريق الرئيسى ويتجهوا إلى أحد المبانى ذات الأسوار العالية، عندها بدؤوا فقط فى الصياح بالسائق ( إنت رايح بينا على فين ؟!)، فقال لهم السائق فى سخرية ممتزجة بالغضب والسخط، لسه فاكرين تسألوا إحنا راحين على فين، على داهية إن شاء الله. دخل محمود إلى ساحة المبنى، نادى على عساكر الحراسة بصوت عالى تحلقوا حوله بسرعة، أشار بيده إلى سيارة الأجرة، قائلا لهم، إعتقلوا هؤلاء المجرمين مثيرى الشغب بسرعة، فاندفع العساكر يحيطوا بالسيارة وفوهات بنادقهم ترفع فى وجه الركاب ويأمروهم بالخروج ورفع أيديهم، وهم فى حالة من الرعب والصدمة، جعلت بعضهم يبلل بنطاله وقد ألجمت الدهشة والخوف ألسنتهم، جلس السائق فى مكانه مطمئنا، فإذا بأحد العساكر يلكزه بعنف بطرف بندقيته ويأمره بالنزول فصرخ فى الجندى، أنا معاكم، فالتفت العسكرى إلى محمود بيه، ينتظر إشارته، فقال له ( ده أول كلب تعتقله !! ) فأخذ الرجل يصيح ويبكى فلكزة العسكرى مرة أخرى حتى سقط على الأرض. فجأة رن جرس الهاتف النقال، فتح محمود بيه الخط فإذا به يجد رئيسه يسأله دون سلام ( عملت إيه )، فرد عليه مسرعا، كله تمام يا باشا، إحنا حاصرنا العيال بتوع المظاهرة واعتقلنا عدد كبير منهم دلوقتى!!، فجاءه رد رئيسه: ايوه كده يا محمود هو ده الشغل، مستقبلك كان على المحك، فرد عليه محمود بيه فرحا، وسط صراخ ونحيب الركاب من حوله، إطمئن ياباشا مصلحة البلد فوق كل إعتبار، وكله تمام يا فندم !!. * كاتب وباحث