يحز في النفس ما آل إليه وضع مصر مع اللمسات الأخيرة للتوريث. نظامها الجمهوري يلفظ أنفاسه إذا لم يعثر على من ينقذه. وحكامها مصرون على تحويل الجمهورية إلى حكم وراثي إقطاعي. ويريدون بذلك تأمين استمرارهم في السلطة وتفادي ما قد يقع لهم إذا ما تركوها طوعا أو كرها. استلزمت الوراثة تقويض ما بقي من أسس وقواعد للحكم الجمهوري. وعلى أشلائه أعيدت صياغة الحكم من جديد على أسس وقواعد بدائية ومتوحشة. وهذه الصياغة جاءت على حساب الوطن والدولة والمجتمع. فالوطن الجامع والحاضن لأبنائه لم يبق مناسبا في الصياغة الجديدة، والدولة المحكومة بقوانين وضوابط ومؤسسات وسلطات وأجهزة تسهر على راحة مواطنيها لا محل لها مع مشروع التوريث. والمجتمع بحراكه وتفاعلاته وتماسكه ليس ملائما لانتقال الحكم من الأب إلى الابن. لذا فالتوريث يتحقق باختزال الوطن وإلغاء الدولة وإضعاف المجتمع. وبالفعل اختزل الوطن الرحب إلى حجم المزرعة أو مستوى الإقطاعية في أحسن الأحوال. وواكب ذلك تغير في لغة مسؤوليه ومفرداتهم، وكان ذلك واضحا حين سئل مبارك الأب عن الوضع القانوني والدستوري والصلاحيات الممنوحة للابن. فرد قائلا 'ابني بيساعدني'. ومنذ تلك اللحظة استقر في الوجدان العام أن الأب لا يفرق بين إدارة وطن ودولة ومجتمع، وملكية ورشة أو متجر أو مزرعة. وإذا ما ساد مثل هذا الفهم انتفى المبرر من وجود الوطن أو الدولة أو المجتمع. ومصر من وجهة النظر هذه. بكل ما فيها من إمكانيات وقدرات وثروات بشرية ومادية أضحت أدنى من وطن. وأقل من دولة، وأصغر من مجتمع. والوطن المختزل بهذا في إقطاعية تختفي فيه المواطنة. وينتقل سكانه من خانة المواطنين إلى سجلات الأتباع والرعايا. وبعودة الإقطاع الجديد أعيد تقسيم العمل وانحسر في قلة من السادة وكثرة من العبيد، والمجتمع الإقطاعي لا يعترف إلا بالسادة، وفي حساب الزمن لا يقر إلا الماضي. وحركته عكسية وتقدمه دائما إلى الخلف. ومزاج الإقطاعي سوداوي دائم الحنين لقرون غابرة. بقيمها المتخلفة وأفكارها العقيمة، ومعارفها البدائية. والثروة في هذا النوع من المجتمعات ملك للسيد والحرمان هو قدر العبد. والسيد الإقطاعي بطبيعته ضد الوطن، ويعادي الدولة ولا يعنيه تَمَاسك المجتمع أو تحلل. والوطن في العالم المتقدم ونصف المتطور تديره دولة حديثة ومنظومة تسهر على راحة مواطنيه وترعاهم، وكلما تطور الوطن اتسع للتنظيمات والأحزاب والجمعيات المتنوعة والمتعددة. وتفاعلت طبقاته وقواه وجماعاته وسعت إلى تنظيم نفسها في أطر ثقافية وسياسية ونقابية ومهنية وحرفية، وتحكمه سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية وإعلامية (سلطة الرأي العام وتعرف بالسلطة الرابعة). والعلاقة بين مواطنيه تقوم على المساواة أمام القانون، الذي لا يفرق بين أحد مهما كان نوعه أو أصله أو لونه أو معتقده، ومن هنا تأخذ الدولة طابعها المدني الجامع. أما مفهوم الوطن بعد النكسة التي أصابته في مصر سادته قيم منحت الحق المطلق للسيد المالك، وفرضت الحرمان المطلق على المملوك المعدم، وسحبت الاعتراف بالطبقات والقوى الاجتماعية، تهيئة للتربة كي تعيد إنتاج مجتمع الطبقة الواحدة، المالكة لكل شيء.. الأرض والماء والهواء والبشر والدواب. ولتوضيح الصورة ما علينا إلا متابعة الصدام الدائم بين أجهزة الأمن. الخاضعة لإرادة ومشيئة الإقطاع الجديد وكل الطبقات والقوى الاجتماعية، وهو صدام يحدث مصحوبا باحتقار شديد لهذه الطبقات والقوى. وكان مفهوم الوطن حتى الأمس القريب أنه ملك لكل أبنائه بكل مكوناته، لكل منهم نصيب فيه. سواء بالملكية الخاصة أو بالشراكة العامة أو بالنشاط التعاوني. كانوا جميعا فلاحين وعمال ومنتجين، وطبقة وسطى.. متعددة ومتنوعة، من خبراء ومهنيين وإداريين وفنيين وأكاديميين وصغار ومتوسطي كسبة وحرفيين ورعاة وملاك وأصحاب محلات ومزارع وورش. كانوا جميعا يشعرون أن البلد بلدهم والثروة ثروتهم والدولة في خدمتهم. وقد تقلصوا الآن حجما وخفوا وزنا. بعد أن تمكن الإقطاع العائد من طرد الفلاحين من أراضيهم، واستيلاء الإقطاع الجديد على أراضي الدولة، واغتصب بالبلطجة والتزوير مساحات شاسعة من أراضي المنفعة العامة. وقاموا بتصفية المصانع، وسلموا أغلبها للاحتكارات الغربية والصهيونية. وقضوا على الصناعة الوطنية وجلبوا بدلا منها مصنوعات وسلع استوردتها الوكالات الأجنبية وفروع الاحتكارات الكبرى. ورموا بالملايين إلى الشوارع بلا عمل أو موارد أو دخل. كثر العاطلون وزادت الجرائم وعم اليأس، خاصة بين الشباب، الذين لجأوا إلى الهجرة، وهي في حقيقتها هروب من أوضاع أكبر من طاقتهم على التحمل. لم يكتف الشباب بالهروب إلى بلاد الغرب إنما اتجهوا صوب الدولة الصهيونية، عدو بلدهم الأول. وصاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار. ونلاحظ أن هناك قناعة بإن الطبقة الوسطى هي وحدها التي ضعفت وفي سبيلها إلى الانقراض، وهذه القناعة ليست بالدقة الكافية. فمجمل البنيان الاجتماعي والبشري يتعرض لتحطيم مبرمج وممنهج. وهذا وضع كل الطبقات والقوى أمام خيارات أحلاها مر. فالعمال إما أن يقبلوا بالقنانة والعبودية اللتين يفرضهما الإقطاعي الجديد، الذي يرتدي ثوب المستثمر أو المحتكر أو السمسار أو القواد، وإن لم يقبلوا يلقى بهم في الشارع، وإذا احتجوا فالأقبية معدة والجلادون في الانتظار. أما الفلاح فعليه أن يعود كما كان قِنّا يفلح مزارع لصوص الأراضي، أو يلقى به في العراء. وعلى نفس المنوال يجري التعامل مع المنتجين والمبدعين وذوي الكفاءات العالية . وشقت ثقافة الاقطاع طريقها إلى عقول أفرغها الطمع والجوع والحاجة والجهل ووطأة الاستبداد والفساد. وأتذكر قولا للزميل خيري منصور جاء في ثنايا مقال له نشرته 'القدس العربي' من عدة شهور، وبالمناسبة لم تكن لهذا المقال علاقة بمصر وما آلت إليه، إنما كان شكوى من ظاهرة الإقطاع الإعلامي والصحافي والثقافي، وكان بعنوان 'إقطاع ما بعد الحداثة'، وأهم ما فيه، من وجهة نظري، مقاربته الذكية لمفردتي الاقطاع والقطيع، وحاجة الإقطاع إلى قطيع من البشر يخدمه ويسهر على راحته. والثقافة التي يتلقاها القطيع تزكي التهميش وتزيد من مساحته. وللتقريب فإن ما يدون على أي هامش ليس سوى ملاحظات أو إضافات على حواف المتن أو النص. والمهمش هو من وضعته الظروف على حواف متن الحياة. وتضاعف عدد المهمشين في مصر بصورة مذهلة، وعددهم الآن بالملايين. نصف عدد السكان تقريبا، الذين سقطوا تحت خط الفقر، ومتن الحياة ضاق وأصبح لا يستوعب أكثر من عشرة في المئة. هم ملاك الثروة والسلطة والنفوذ. وفي قلبه يستقر المالك الأكبر وعائلته وأصهاره وشركاؤه. يعاونهم جيش من الجباة والملتزمين والجلادين والخدم والحشم. ومن استقروا على الهامش صغار موظفين وباعة جائلين وعمالا مؤقتين وخدم منازل. يسكنون عشوائيات بائسة على أطراف العاصمة وتخوم المدن الكبرى، والهامش نفسه لا مكان فيه للمتسولين وأبناء الشوارع والمحرومين والمعدمين. وتستغل سلطات الأمن والحزب الحاكم حاجة هؤلاء وفقرهم في ترهيب وترويع الخصوم. وبسبب تدني وعي هؤلاء فقد ركنوا إلى الجهل واستسلمو ا للسخرة. أملا في البقاء على حافة الموت. والسخرة، أكبر عار يُلصق بأي حكم، خاصة أنها لا ترحم صبيا ولا فتاة ولا كهلا. آلاف مؤلفة من هؤلاء المساكين يسوقها ويشحنها مقاولو الأنفار كل صباح في شاحنات المنقولات والحيوانات. ولا يعودون إلا بعد مغيب الشمس بقروش قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع، وكم قتلت هذه السخرة براءة كثير من الصبية، وانتهكت كثيرا من أعراض الصبايا وفرضت الذلة والمسكنة على الشباب والكهول. وهكذا تحول المصريون على أيدي لصوص الأرض ومماليك العصر إلى أقنان وعبيد. وثقافة القطيع أتخذت مؤخرا منحى جديدا، وساعدت في ظهور مليشيات لمبارك الابن باسم 'طلائع جمال مبارك'. تحت سمع وبصر أجهزة الإدارة والأمن. وتعود بي الذاكرة إلى سنوات قليلة مضت. يوم مشاركة طلاب الإخوان المسلمين في استعراض لمهارات الدفاع عن النفس في كلية من كليات جامعة الأزهر. قامت الدنيا ولم تقعد. ولم تهدأ الأمور إلا بعد القبض على الطلاب وإدانة الاستعراض من منظميه واعتذار قادته. أما شعار مليشيات جمال مبارك - حب - إخلاص - وفاء-. وكي نتعرف على خطورة هذه المليشيات. لنتصور أن صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى، أو زكريا عزمي رئيس ديوان الرئاسة، أو فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، وهم من فلول الحرس القديم. لنتصور أن لدى أي منهم مليشيا خاصة به. واحدة باسم طلائع صفوت الشريف. أو أخرى باسم براعم زكريا عزمي. وثالثة باسم شباب فتحي سرور. وكل منها يعلن القسم والولاء لصاحبها. وأترك لخيال القارئ تصور الباقي. وللعلم فنظام المليشيا إبداع فاشي. ساعد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والدكتاتورية الأسبانية في الوصول إلى الحكم بالعنف وإرهاب المواطنين وملاحقتهم. وطلائع جمال مبارك لن تختلف في نزعتها الفاشية وفي دورها المستقبلي وترويع الناس وملاحقتهم. ومع كل هذه التطورات كتب إلي من يقول بأن الشعب المصري يمارس التوريث فى حياته اليومية. فالموظف بورث إبنه أو إبنته قبل أن يحال على المعاش والطبيب يلحق إبنه بكلية الطب ليرث عيادته من بعده، والتاجر يورث المتجر لأحد أبنائه وقس على ذلك المهندس . المحامى . الفلاح والقصاب . والصيدلي وأستاذ الجامعة . واستطرد: إذا كان هذا عُرفا ساد فى قاع ووسط المجتمع إذن فلماذا ترفضه فى قمة الهرم . وطالبني وغيري بأن نكون من المنصفين ونبايع جمال مبارك، كما نفعل مع أولادنا. وهذا القول يكشف أن معنى الإنصاف هو أن تكون سندا للخطيئة ومؤيدا للاعوجاج. ويشير إلى أن ثقافة الإقطاع العائد اخترقت عقول مصرية عديدة. وسألت نفسي لماذا لا يُسأل جمال مبارك وغيره لو أننا ورثنا مهن أبائنا. ولو ورث مبارك الأب مهنة والده رحمه الله، لكان معنى ذلك أن مصر ما كانت لتتغير، ولاستمرت العائلة العلوية تحكم مصر حتى الآن. والخلاصة أن الحكم ليس وظيفة تعقد لها المسابقات وتوضع لها الشروط، ويصدر بها قرار تعيين من الشخص المسؤول. والمنصب السياسي منوط بأصحاب الشأن وهم المواطنون وليس غيرهم.