كما يؤدي إدمان التدخين إلى الإصابة بعدد من الأمراض يقود أخطرها إلى الموت البطئ المؤلم ، يؤدي إدمان السلطة والعرش إلى عدد من الأمراض تقود الدول إلى الهلاك. والهلاك المقصود هنا ، والذي يخططه لنا أعداء الخارج والداخل ، ليس هو هلاكنا كشعوب. فأعدادنا كبيرة لا يسهل إفناءها في وقت سريع أو في هدوء ، وهما أهم الشروط اللازم توافرها لشن عمليات إبادة عرقية. وإنما ما يسعون إليه هو إهلاك شخصيتنا وهويتنا وديننا لتمكين إسرائيل من قيادنا بلا مقاومة ، ويمكننا بسرعة إستعراض أهم (إنجازات) وانعكاسات إدمان السلطة في بلادنا في هذا الصدد: الحرب الأخيرة على القضاء ، أهم معاقل الحرية في مصر، من أجل إرهاب الشرفاء وتبرير التسويف والمماطلة في إجراء أي تحقيق جاد بشأن من مارسوا التزوير الفاحش في إنتخابات مجلس الشعب حفظ التحقيق مع بلطجية الاستفتاء تهريب صاحب العبارة الكيد الدنئ لحزب الوسط لمنع إشهاره تأجيل إنتخابات المحليات إعلان مبارك النكوص كعادته عما تعهد به بإلغاء الطوارئ .. إلخ. وكل ما سبق هو مجرد مقدمات للحدث الأكبر الذي يتطلب إخراس كل صوت معارض حتى يتسلم الباشا عرش مصر بلا إزعاج. وكانت (المصري اليوم 2/4) قد نشرت ثلاث تعليقات على الحديث المطول الذي بثه التلفزيون مع جمال مبارك ، حيث شدد د. سمير سرحان على أهمية إستخدام التلفزيون كونه "أخطر الوسائل التي تحدد شعبية الشخصية العامة وجاذبيتها ، وهو إختبار لكل من يعمل بالعمل العام. وقد نجح جمال مبارك بنسبة 90% في الوصول بأفكاره إلى الجماهير العريضة." والواقع هو أن مخططي عملية التوريث والترويج لجمال إعتبروا أن الآن هو الوقت المناسب لاستخدام أخطر أسلحة العصر، وهو التلفزيون لثلاثة أسباب : الأول هو ما أشار إليه د. سرحان عن قدرة التلفزيون على أسر عقول المشاهدين وتوجيهها إلى ما يريده صاحب الرسالة. فهذا هو السلاح الذي على سبيل المثال مكن اللوبي اليهودي من العقل الأمريكي ، وهو السلاح الذي حرك الرأي العام الأمريكي وأدى إلى هزيمة أميركا في فيتنام ، وبعدها بسنوات غرر بالأمريكيين لكي يمكن إدارة بوش من غزو العراق. لقد كان توريث جمال مبارك صناعة القرار عملية سهلة لأنها تمت في الخفاء. أما التتويج (توريث المنصب) فهو إجراء علني يتطلب حملة علاقات عامة على درجة عالية من الحرفية. السبب الثاني وراء التعجيل باستخدام التلفزيون كان مجموعة الخسائر التي حصدها جمال ولجنته الشهيرة إثر أستقالة د. أسامة الغزالي حرب من اللجنة ، وتلويح آخرين بذلك، وما تكشف عن أنها ليست سوى "مكلمة" ، وأن ما يتردد عن وجود إصلاحيين فيها ليس إلا "خرافة". أما السبب الثالث فهو التشديد على إنكار نية التوريث بعد ما قاله الأستاذ هيكل والتمويه على هذا المخطط حتى يستكين الخصوم وتهدأ نفوسهم ، فلا يستعدون له أو يفكرون في وضع خطة مواجهة طويلة الأمد تأخذ جميع الاحتمالات الأمنية في الاعتبار، وبالتالي تسهل مفاجأتهم فيما بعد ووضعهم أمام أمر واقع محبط ، تماما كما كانت مفاجأة التعديل الذي آلت إليه المادة 76 ، محبطة بعد كل ما قيل عند الإعلان عنه. فقد إعتدنا في ظل حكم مبارك أن يكون "الكلام شئ والواقع شئ آخر" على حد تعبير د. محمود جامع صاحب التعليق الثاني. على الرغم من أن عملية التوريث إنطلقت عام 2003 في مؤتمر الحزب الوطني الأول الذي ابتدعوا فيه طرفة "الفكر الجديد" ، فإن الإعداد لها بدأ منذ سنوات عبر إنخراط مبارك الإبن فيما يسمى بالمجلس الرئاسي المصري الأمريكي ، حيث نجح جمال من خلاله في توثيق علاقاته بالدوائر النافذة في الولاياتالمتحدة ونيل ثقة الإدارة الأمريكية ، وهذه أهم المؤهلات التي يشترطها الأمريكيون في حكام المنطقة مقابل مساعدتهم على تأمين عروشهم . بتعبير آخر، فإن مبارك الإبن يُورث حكم مصر ليس فقط لأن مراكز القوى المحيطة به مستنفعة بذلك ، وإنما أيضا لأنه مرضي عنه أمريكيا ، وكان بوب وودوارد قد ذكر في كتابه عن إستعداد إدارة بوش لحرب العراق ، حادثة ذات مغزى واضح حول مسعى الرئيس مبارك لإثناء بوش عن الغزو، حيث أرسل إليه جمال مبارك في زيارة سرية في فبراير 2003، وجرى اللقاء بالرئيس الأمريكي في البيت الأبيض . وما كان مبارك الأب ليرسل إبنه لولا ثقته في عمق العلاقة التي تربطه بالأمريكيين ، وبالتالي فهو الشخص الوحيد الذي كان يمكن أن ينجح في إثنائهم عن الغزو . وأنا لا أذيع سرا عندما أقول أن الإدارات الأمريكية إعتبرت دائما نظام الرئيس مبارك بمثابة الحليف الأول لهم في المنطقة . وعليه فالمنطقي والمتوقع هو أن يؤيد الأمريكيون توريث صنع القرار ثم الحكم لمبارك الإبن لأن هذا يؤمن لهم حليفا مضمون الولاء لأربعين عاما قادمة . لقد أكد د. جامع سيناريو التوريث الذي كنت قد توقعته في مقال كتبته منذ عام ونصف (آفاق عربية 14/10/2004) تعليقا على مؤتمر الحزب الوطني الثاني ، عندما قلت : "إن الهدف من الإعداد الهادئ لجمال مبارك وتمكينه من السيطرة الكاملة على صنع القرار هو وضع كل خيوط الحكم في يده ، ومن ثمّ فرضه في النهاية كأمر واقع . فهو فضلا عن تربيطاته الداخلية ، سيتم ترويجه من جانب رؤساء التحرير المؤبدين على رأس مؤسساتنا الصحفية ك"صاحب العلاقات الوثيقة مع أصحاب الحكم والنفوذ في واشنطن وعواصم الغرب الأخرى ، والذي تشرب خبرة ثلاثين عاما في الحكم من أبيه. فمن في مصر غيره أحق بالحكم؟". وبالتالي فإن مصر ستكون في "حاجة إلى الزعيم الملهم جمال مبارك لكي يقودها بحكمته وعبقريته وبصيرته النافذة إلى بر الأمان في الزوابع والأنواء التي تعصف بمنطقتنا".". لم أكن أتوقع منذ عام ونصف أن يقرر الحكم تغيير رؤساء تحرير الصحافة "القومية" ، ولم أكن أتصور حينئذ أنه يمكن أن تكون هناك أقلام صحفية أسوأ نفاقا مما هو كائن . ثم وقع ما لم أكن أتصوره كأحد أهم الخطوات اللازمة لاستكمال مخطط التوريث. فالترويج والتدليس يتطلبان نفاقا على درجة من الإبتذال لاتقدر عليه إلا أقلام منزوعة الكرامة والاحترام. وقد عبر د.جامع عن نفس السيناريو السابق في رسالته إلى الأستاذ مجدي مهنا بقوله : "إن تنظيمات الحزب وأجهزة الدولة كلها ووسائل الإعلام ستقوم في الوقت المناسب بمسيرات ومظاهرات مدفوعة لمطالبة جمال مبارك والتوسل إليه بأن يرشح نفسه إنقاذا للوطن ، وسيقبل جمال نزولا على إرادة الجماهير المتظاهرة الحاشدة .. ومجلس الشعب بأغلبية الحزب الوطني جاهز، والمادة 76 آخر تمام ومباحث أمن الدولة كله تمام". كما تساءل د. جامع "لماذا ينشغل الناس بشخص خليفة الرئيس ولاينشغلون بتوريث أساليب الحكم والفساد والحاشية ، وهذه هي المشكلة الأساسية". وتعليقي على هذا التساؤل هو أن الجرح الذي تضاف إليه الإهانة يكون أشد إيلاما. نعم ليست المشكلة الأساسية في الوجوه الحاكمة بقدر ما هي في السياسات. وإنما هناك فرق كبير بين مصارحة الناس بطبيعة ماهو قادم أيا كانت سوءاته ، وبين الاستخفاف بعقولهم وتصوير الأمر على غير حقيقته ، فضلا عن تحويل بلادهم إلى ملكية تحت إسم "جمهورية". لقد إستخفوا بنا يوم مهزلة الاستفتاء على التعديل (الذي صوت فيه 53% من الناخبين طبقا لحبيب العادلي) ويوم "إنتخاب" مبارك التي إنتفت فيها المنافسة، وهي أهم عناصر العملية الانتخابية. بتعبير آخر، نحن نرفض توريث أساليب وسياسات الحكم التي خربت مصر وأوصلتها إلى ماتحت الصفر في جميع المجالات ، ولكننا يجب أن نرفض بدرجة أشد توريث السلطة للأبناء لأنه يضيف الإهانة والاستخفاف إلى التخريب. أما ما أشارإليه د.جامع عن محاولاته لأن يكون "واسطة خير وحوار بين جمال مبارك وبين قوى وطنية فاعلة ومؤثرة ، ولكن جمال رفض الحوار ورفض النقاش بكل قوة وأكثر من مرة" ، فهذا لايؤكد فقط أن الإبن ورث الإزدراء بالمعارضة ، وإنما يؤكد أيضا إستخفافه بها ، وأنها بقليل من التمويه لن تكون عقبة تستحق الأخذ في الإعتبار. وحتى عندما يطلب جمال كما أتوقع بعد إعلان نزوله على إرادة جماهير الشعب الحاشدة وترشيح نفسه للرئاسة الاجتماع مع المعارضة والخصوم ، فلن يكون ذلك إلا بنصيحة من مديري حملة الترويج من أجل تحسين الصورة وتخدير المشاعر وتسكين النفوس وإستمالة من يمكن إستمالته حتى يتمكن من السيطرة على مقاليد السلطة. بل قد يصل به الأمر إلى أن يطلق تعهدات بتعديلات دستورية وتحديد مدة الرئاسة وإلغاء قانون الإرهاب وإلغاء جهاز أمن الدولة وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب.. إلخ ، إمعانا في الاستخفاف بالعقول. إن جمال مبارك لم ينخرط في السلطة بعد إلى حد إدمانها . ولو سُمح لعملية التوريث أن تستمر إلى نهايتها المخطط لها ، سيكون الإدمان قد تمكن منه ، وسيكون على أبنائنا وأحفادنا أن يعانوا أربعين عاما أخرى من الانكسارات والإحباطات والصفعات والإهانات . [email protected]