نسيَ الزمان "قرية جحر الديك"، لكن المنخفض الجوي "هدى" لم ينس أن يضاعف من آلام سكان المنازل المدمرة في تلك القرية الحدودية، فلم تسعفهم حجرات الصفيح ولا الأكواخ بالصمود أمام قسوة الشتاء . يتجاهل الممر الضيق المؤدي لموقع "الكاميرا" العسكري معاناة السكان، فأخر مرة سلكت طريق الأسفلت الرئيس دبابات الاحتلال قفلت عائدة بعد أن التهمت مئات المنازل، واليوم حلّ الشتاء مرتديًا معطف الريح فاقتلع الخيام التي أقامتها عائلات القرية على ركام منازلهم المدمرة. ودمر الاحتلال في الحرب الأخيرة على غزة قرابة 1000 منزل منها 570 بشكل كلي، والبقية بأضرار متفاوتة بينما فقد المئات مزارعهم وأشجارهم. بقايا منازل قرب مدرسة قيسارية، تجمعت عائلات "أبو عيسى" المدمرة منازلها في الحرب مرةً أخرى، مشكلةً قاطرة من حجرات الصفيح بعد أن بدد الهدم ما كان يعرف سابقًا "عزبة أبو عيسى" وهي مزارع ومساكن العائلة. محمد فتحي أبو عيسى، بنى من الصفيح حجرتين ومطبخًا وحمامًا كساهما قبيل حلول المنخفض الجوي ب"النايلون"، لكن اشتداد العاصفة مزقت غطاءه فاضطر لإعادة تثبيته بعد أن دلفت المياه من سقفه، فيما تسللت مياه الأمطار لأرضية البيت. يقول: "كان بيتنا المدمر أسبست 160 مترًا، وكما ترى الآن الوضع صعب وبرد شديد، في الحرب هربنا وتركنا بيتنا المرمم من أقل من سنة وعدنا بعد الحرب فلم نجده، هربنا لمدرسة الإيواء ثم تأجرنا ببرج سكني قصفوه بالمدفعية واليوم المنخفض بهدلنا". أما قريبه صبري فقد دمر القصف سقف منزله "الإسبست" فلم يعد صالحًا للسكن حيث بقي في مدرسة الإيواء طوال فترة الحرب، وعندما عاد لمنزله ثبت في زوايا الدمار الذي طال السقف والجدران ألواحًا من الصفيح وكمية من "النايلون". ويشكو صبري أبو عيسى من قسوة البرد التي تسللت إلى أجساد أطفال وسكان البيت العشرة في المنخفض الجوي الأخير لأن بيته المرمم على طريقته لم يحمه من المطر. شوارع خالية وحدها عربة سالم أبو عيادة، رئيس البلدية، تمشط طرقات القرية شبه المدمرة، تقف دقائق معدودة أمام أكوام من الدمار كانت يومًا منازل، يطل من خلفها رجال يجرون حديثًا مقتضبًا عن أضرار المنخفض، ثم تبتلعهم خيامهم المجاورة للدمار من جديد. يطوف أبو عيادة بعربته ذات الدفع الرباعي على سكان الجهة المحاذية لمجرى الوادي، ويحذرهم من احتمال فيضان مياه الوادي في أي لحظة لاتخاذ الاحتياطات اللازمة تحسبًا لتكرار مشكلة مداهمة المياه لمنازلهم كما وقع العام الماضي. يقول: "وثقنا 850 منزلًا مدمرة كليًّا في الحرب و330 جزئيًّا وسيارتي تدور ليل نهار على السكان خاصة جيران الوادي، معظم السكان عادوا وبنوا خيامًا وأكشاك لكنهم في ظل المنخفض يحتاجون النايلون وكثير من مستلزمات الإغاثة لمواجهة المنخفض". خاض أبو عيادة تجربة الدمار مرتين بدرجات متباينة فقد قصف الاحتلال منزله ودمره بالكامل في حرب 2009، وأصابه القصف بأضرار جزئية في الحرب الأخيرة، وهو لا يقبل بميلون دولار كما يقول مقابل هدم منزله مرةً جديدة. ويشاهد المارّة في طريق الوصول لمنازل آل أبو سعيّد المدمرة، كيف اقتلعت الرياح نصف مساحة مسجد "أبو بكر الصديق" الذي بناه سكان القرية من أقواس الدفيئات الزراعية والنايلون فيما تبدو مكبرات الصوت صامدةً فوق ركام مبنى المسجد القديم. منزل حديث بللت الأمطار الغزيرة أكوام الدمار في منطقة "أبو سعيد"، لا يخترق هدوء المكان سوى طلقات نارية من برج عسكري يبعد مئات الأمتار على خط الحدود اعتاد سكان المنطقة عليها بين حين وآخر. يقف منتصر أبو سعيد بسيارته قرب منزل مدمر وينادي على "أبو طلب" فيطل الأخير وبيده مطرقة وقطعة من الخشب انشغل بتهذيبها قبل أن يثبتها في منزل على الطراز الحديث. يقول منتصر: "فقدنا 6 شقق سكنية في الحرب فتشتت 25 فردًا واليوم لا تبدو أكواخ الصفيح التي صنعها معظم سكان القرية صامدة أمام هدى- يبتسم- لكن ربما تأقلمنا مع البرد رغم أن الحياة معاناة، لكن معنوياتنا عالية ولا يزعجنا سوى أمراض البرد التي أصابت الأطفال". منذ أسابيع ينشغل "أبو طلب" محمد أبو سعيد بإقامة منزل من الصفيح كسا جدرانه من الداخل بألواح خشبية وقسم مساحته لحجرتين ومطبخ وحمام، وهو منزل كما يقول متندّرًا ممكن جمعه أجزائه لو قصفه الاحتلال. يثبّت "أبو طلب" خيمة صغيرة بجوار المنزل قيد الإنشاء يأكل ويشرب وينام فيها، كما يقول، وهو لا يفضل أن ينقل أسرته من بيته المستأجر في مخيم البريج حتى يفرغ من بيته الجديد في القرية. ويضيف: "حتى الآن كلفني هذا البيت 5 آلاف دولار أشتغل بيدي ما أعرفه وأستقدم بعض الصانعين في بقية الأجزاء، قررت البقاء هنا بجوار منزلي المدمر بعد أن فقدت مزرعة الخضروات ومزرعة الدواجن التي قصفها الاحتلال، والآن أنا منشغل لتجهيز بيت يتحدى الشتاء بمطره وبرده".