إنها أسر عاشت ضراوة الحرب وفقدت الأبناء والبيوت لتعيش اليوم في المناطق الأكثر تدميرا بين ركام وعذابات الماضي وبين قسوة الحاضر في وطن يعاني عدم الاستقرار والانقسام. بالأمس تحملت ويلات الحرب واليوم تعاني التجاهل بل النسيان. علي امتداد مساحة شاسعة من الأراضي الزراعية التي دمرتها يد العدو ظلت بقايا الزرع فيها تبوح بأن ثمارها كان وارفة وممتدة, يقع منزل عائلة في جباليا شمال قطاع غزة علي بعد عدة أمتار من الحدود الاسرائيلية. في ساحة المنزل تشهد آثار الدمار علي وحشية القصف الاسرائيلي, يلهو الأطفال علي الأرجوحة في مرح ونشوة تتحدي قسوة حياتهم, فعلي الرغم من أنهم يعيشون في منزل تتناثر علي جدرانه آثار طلقات العدو وقذائفه, وتخلو نوافذه من الزجاج, ورغم أنهم لا يستطيعون البقاء خارج المنزل بعد الثامنة مساء بسبب انقطاع الكهرباء الدائم, والرعب من الاجتياح الاسرائيلي مرة أخري, فإن الحياة مازالت مستمرة في منزل الأسرة التي تضم أكثر من عشرين فردا ورغم الهدوء الذي يسود المكان إلا أن عائلة ملكة تعيش في حالة عدم استقرار دائم ما بين الحرب والحصار, ومازال أفراد الأسرة يعانون آثار الرعب الذي صبغ أيامهم خلال الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل علي غزة قبل عام ونصف, ولم يمهلهم الحصار والإهمال فرصة للشفاء. لحظة متعة على الأرجوحة نادرا ما تتكرر فى جباليا. تصوير : السيد عبد القادر أم عادل.. الأم التي تحمل ملامح وجهها تجاعيد لا تعكس فقط سنوات عمرها ولكن أيام طويلة من المعاناة والقهر, تتذكر أياما الرعب في أثناء الاجتياح الصهيوني فتقول: فوجئنا بهم يهاجمون منزلنا ويحاصرونه ومن يجرؤ علي أن يطل برأسه من النافذة يكون مصيره القتل الفوري, وتحت نيران القصف المتواصل دمروا منزل ابني وظللنا لأيام عديدة نختبيء في إحدي حجرات المنزل خوفا من أي حركة قد تودي بحياة أحدنا, حالة من الرعب لم يستطع حتي رجال الصليب الأحمر إنقاذنا منهم بسبب عدم قدرتهم علي الوصول إلينا من شدة القصف تقص الأم التي لن تنسي أبدا مشهد ابنها الذي كان يتلوي من ألم ومغص كليتيه ولا يستطيع الخروج طلبا للعلاج. وانتهي الاجتياح تاركا منزلا مدمرا وآثارا قاسية علي عائلة عبد الكريم قدورة الشهيرة بملكة وتبدو غير قابلة للعلاج. قنابل فسفورية دمرت التربة التي كانت تنتج احتياجات الأسرة من خضراوات وفاكهة, وجدران تهدمت لا نستطيع أن نعيد بناءها بسبب نقص مواد البناء بسبب الحصار ونوافذ بلا زجاج وحتي بئر المياه دمروه. كما يشرح أبو عادل. وبعد أكثر من عام ونصف, مازالت عائلة ملكة لا تستطيع أن تعيد الاستقرار والأمان المفقود إلي حياتها. فكما تقول أم عادل لدي سبعة أبناء وخمسة منهم, لا يعملون ومنهم مطيع الذي قضت الجرافات الاسرائيلية علي بيته وارتضي اقتسام غرفة واحدة بينه وبين زوجته وأبنائه. بالاضافة إلي المعاناة اليومية من الانقطاع الدائم للكهرباء والتي تحول غزة ليلا إلي مدينة للأشباح, وكذلك نقص المياه الصالحة للشرب. نشتري لتر المياه ب35 شيكل. كما يقول مطيع, مشيرا إلي الكرسي الذي يجلس عليه واشتراه ب50 شيكل بدلا من20 بسبب الحصار. وهو مثل جميع أفراد الأسرة يري ضرورة عقد مصالحة وطنية حتي يكسر الحصار. أرض مدمرة وبيوت تحتاج للترميم وبطالة وأسعار مرتفعة ومشكلات تعكر صفو الأسرة التي تخشي بين اليوم والآخر حدوث اجتياح اسرائيلي آخر وعدم أمان يجعلهم لا يفكرون في محاولة إصلاح الأرض وزراعتها. من يضمن ألا يعودوا ليدمروها مرة أخري يتساءل أبو عادل. قرية تساوت بالأرض عزبة عبد ربه شرق مدينة جباليا في مواجهة الحدود الاسرائيلية شمال قطاع غزة أولي المناطق التي دخلها جنود الاحتلال الاسرائيلي عقب القصف الجوي لغزة قبل عام ونصف العام. بعد الحرب لم يميز مواطنو القرية أماكن منازلهم من بعضها البعض, بعد أن تغيرت معالم القرية بالكامل, الأراضي الزراعية التي كانت مزروعة بالموالح من الليمون والبرتقال والزيتون تم إحراقها بالكامل, وبرواية أهل القرية لم تستطع أطقم الإغاثة التابعة للصليب الأحمر الدخول إليهم حيث كانت أنقاض البيوت تغطي جميع الأماكن وتحتها العديد من الشهداء الذين كانوا في منازلهم في أثناء قصف طائرات الاحتلال للقرية. عزبة عبد ربه اعتادت دفع ثمن أي غزو إسرائيلي للقطاع فالهجوم الأخير كان الرابع الذي يتم فيه قصف هذه القرية بالتحديد بحسب كلام محمد عبد ربه الذي يعيش مع أسرته حتي الآن بخيمة بجوار منزله الذي تساوي بالأرض ولا يملك إعادة بنائه مرة أخري ويقول القصف الأخير للقرية كان الأعنف والأشرس لمدة خمسة أيام متواصلة فلقد تحولت إلي منطقة عسكرية وقام جنود الاحتلال باعتقال بعض الأفراد في أحد البيوت القريبة من منازلنا وقاموا بالتحقيق معنا وكانت معهم قائمة ببعض أسماء الأهالي وقاموا بترحيلهم إلي السجون الاسرائيلية وحتي الآن لا نعرف ما هو مصيرهم, وكانوا يعتقلون أيضا أي فرد ينتمي لحماس علي الفور, وبعد انتهاء التحقيق معنا أمرونا بالخروج من القرية في الليل بشرط أن نسير في صف مستقيم ومن يخرج عن هذا الصف يتم قتله علي الفور ثم رحلونا إلي جباليا البلد, وهددونا إذا استمر أحد منا سيتم قتله وبعد انتهاء الحرب عدنا إلي القرية لنجدها عبارة عن حجارة وركام بالكامل لدرجة أن كل واحد من السكان لم يعرف مكان منزله الأصلي. ويقول أناشد الرئيس حسني مبارك أن يضغط علي جماعة حماس لكي تتم المصالحة الفلسطينية لأن مصر لها الدور الأكبر في حل النزاع الفلسطيني ولها تأثير كبير علي إخواننا الفلسطينيين, فنحن نعيش مآساة حقيقية نتيجة لهذا الانقسام الداخلي. 53 منزلا تم هدمها بالكامل بالاضافة إلي منزل محمد عبد ربه الذي قصف بصاروخ أحدث فجوة في الأرض عمقها16 مترا, وهو لا يزال من بين البيوت القليلة التي يعيش أهلها في مخيم حتي الآن بسبب انتماء العائلة إلي السلطة الفلسطينية بالضفة ولذلك رفضت حماس إمدادهم بأي مساعدات ويقول إذا انتقدت الحكومة المقالة ستقوم ميليشيات حماس بطخي في الصوابين طريقة شهيرة في القطاع تتبعها جماعة حماس لعقاب من يثبت انتماؤه لفتح بوضع فوهة السلاح في باطن ركبته وإطلاق الرصاص لكي يتطاير مفصل الركبة لأن كرسي السلطة أصبح أغلي من دم الشعب الفلسطيني الآن. أما أم سهيلة زوجة محمد عبد ربه فتروي استشهد ابن عمي أمام أعيننا ولم نستطع الخروج لحمله ودفنه وظل جثمانه ملقي علي الأرض حتي انتهاء القصف, مضيفة أن أطفال القرية يعيشون مع أسرهم في خيام لا تتجاوز مساحتها ستة أمتار حتي أن معظمهم أصيبوا بالربو وحساسية الصدر بسبب البرد القارس والأمطار التي تهطل عليهم في الشتاء, بالاضافة إلي الزواحف والكلاب الضالة التي تجوب المنطقة وتهدد حياة أطفال كثيرين. أوضاع قاسية تعاني منها أسرة عبد ربه منذ انتهاء الحرب وبرغم ذلك فهي من الأسر التي تعيش في بؤرة النسيان. حكومة حماس المقالة وكثير من الجمعيات الأهلية التي حضرت لنا بعد القصف جميعهم خدعونا وتاجروا بمعاناتنا جراء القصف وتركونا نعيش في الخيام حتي الآن, فحماس تعاقبنا بجريمة الانتماء لحركة فتح ونعرف ذلك لكن أين هو المجتمع الدولي مما نحن فيه قال ذلك ماهر علي عبدربه بألم وحسرة وهو يشير إلي أرض خاوية بها بقايا أساس منزله بيتي كان هنا وبعد القصف مباشرة عندما عدنا لم نعرف أماكن بيوتنا من بعضها وأحضرنا مهندسي مساحة لكي يحددوا لنا أماكن منازلنا وكل المساعدات التي قدمت لنا كانت من الأونروا التي قامت بإزالة الأنقاض وإمدادنا بمعونات غذائية نقوم بصرفها كل شهر. أما زكريا الناصر الذي يعيش في خيمة بجوار ماهر فيقول بيوتنا هذه لن تبني إلا إذا اتحد الفلسطينيون في القطاع والضفة الغربية مرة أخري والمصالحة الوطنية لن تتم إلا من خلال مصر لأنها قلب المنطقة النابض وهي الوحيدة التي تستطيع أن تتحاور مع جميع الفصائل الفلسطينية لأن مصر شريكة لنا في القضية وفي الأرض بحكم دماء الشهداء المصريين الذين دفعوا أرواحهم من أجل الدفاع عن التراب الفلسطيني من أيام حرب1948. بعد عام ونصف مازال450 فردا بعزبة عبد ربه كانوا يعيشون في53 منزلا يعانون الحياة في الخيام والحياة القائمة علي المساعدات الغذائية وانعدام مورد الرزق. أطلال حي السلام من منطقة أخري تتكرر المأساة ولكن معظم الحلول غائبة, ففي حي السلام يفترش خضر محمد الأرض هو وزوجته وأمام منزل صغير يقوم العمال ببناء جدرانه في مشهد يثير الفضول والألم معا. في الحي الذي دمرت الجرافات والطائرات الاسرائيلية أكثر من150 منزلا فيه وخلفت مئات الشهداء, كان لخضر وأسرته12 منزلا تؤوي60 أسرة من أبنائه وأحفاده ساوتها الوحشية الاسرائيلية بالأرض. أيام شديدة القسوة تدمع عين الرجل حين يتذكرها, أسرة تعيش في أمان, تزرع الأرض وترعي الغنم وانقلب حالها رأسا علي عقب تحت وابل القصف الذي استمر22 يوما لم تقض فقط علي بيوت عائلة خضر ولكن علي كل بيوت المنطقة, فررنا وقتها لنقيم لدي بعض الأقارب في جباليا البلد وبعد ذلك عاد كل منا ليري ما حدث في بيته, فرأينا بيوتنا وقد تهدمت جميعها وغنمنا وقد ماتت, مشهد أصابني بمرض القلب والضغط, وأضطررنا لإيجار بيت بقيمة300 دولار شهريا, يقول خضر مضيفا انه بعد8 شهور اضطررنا للعودة لعدم القدرة علي تحمل قيمة الايجار وقمنا بترميم جزء من البيت لنحتمي به أنا وأبنائي من حرارة الشارع, ومرت سنة وأربعة أشهر دون أن يلتفت أحد من الحكومة لما نعانيه حتي أتت جمعية الرحمة الخيرية لترميم بعض البيوت ومنه بيتي. عملية الترميم بدأت منذ شهرين لكن يتعوقها نقص مواد البناء وليظل خضر: وعدد من أبنائه الذين يعاني معظمهم من الطالة وبين الشارع والبيت غير المكتملة جدرانه. ويتساءل خضر: أين دور الحكومة لمساندة الأسر التي دمرت منازلها مثلنا؟, أولا يكفينا هذا الكم من الشهداء والجرحي من أبنائنا حتي نتحمل استمرار الحياة بلا مأوي لشهور طويلة؟ يتساءل خضر الذي نجا من الموت أثناء الحرب لكنه يخشي الموت كمدا بعدها.