ما أشبه اليوم بالبارحة .. وكأن التاريخ يعيد نفسه حقا.. فها هي نفس المصطلحات القديمة التي تم بتمريرها وإقناع البعض فيها من قبل تفكيك العالم الإسلامي، يتم استهلاكها واستخدامها اليوم بحجة حماية الحقوق، وما هي حقا إلا مبررا لفقد الحقوق وإضاعة الوقت، بل ويصل الأمر لتصبح هذه المصطلحات قنطرة للعبور لمستنقع العمالة باسم الوطنية والحقوق المشروعة، حتى وصل الأمر لتحالف هذه العقول المحشوة بكل شيء ما عدا الدين والعزة والكرامة، حتى وصل بهم لمحاربة أبناء جلدتهم، بل انقلبت الموازين حيث أصبح من يريد الوطن خائن، وأن الخائن- بالمقابل- هو من يريد مصلحة الوطن، وأصبحت الشجاعة والمقاومة تهور، والذل والجبن عقلانية... بالأمس القريب، أقنع الغرب زعماء العرب بالوقوف في وجه الدولة العثمانية، ووعدوهم بالإستقلال والدولة، فشبهوا الخلافة العثمانية بالإحتلال وأقنعوهم بذلك ونعتوها بكل وصف سيء، فوقف السذج من العرب في وجه الأتراك في تحالف مع الإنجليز أملاً في حصولهم على الإستقلال، فصدقوا الكفار وخانوا المسلمين.. فهذه العقول التي اتسمت بالعقلانية والرشد وادعاء فهم الواقع والتماشي مع الواقع العالمي، فرخت وأنتجت نماذج تسير على نفس الطريق، فذهبت فلسطين سابقاً من الحضن العربي والإسلامي بفعل عباقرة العرب العقلانيين بعدما تشرذم العرب وأصبحوا في ذيل الأمم بعدما كان العالم كله يهابهم، ويراد الآن أن تذهب فلسطين من ذاكرة وتاريخ الأمة بفعل العقلانيين الجدد، وبنفس الأدوات كالديمقراطية والدولة والمشروع الوطني وغيرها...
حينما هب الفلسطينيون للدفاع عن أرضهم قبل حرب 48 جاءت الجيوش العربية بحجة حماية الشعب الفلسطيني، فطلبت من أهل فلسطين بتسليم سلاحهم بحجة أنه يجب أن يكون سلاح شرعي واحد، وصدق أهل فلسطين ذلك فذهبت فلسطين ، واليوم وبحجة العقلانية وإيجاد سلاح شرعي واحد، وبحجة التهور في المقاومة والذرائع المتاحة للعدو أصبحت المقاومة ممنوعة وأصبح السلاح الشرعي الوحيد هو السلاح الذي يحمي المحتل وأعوانه.
الدولة الفلسطينية هي المشروع، لا يهم قابلة للحياة أم حية أم أي شيء، لا يهم، المهم دولة فلسطينية، مصطلح جميل، ويضاف إليه قابلة للحياة، أي ولو كانت في غرفة الإنعاش كحال شارون اليوم تعيش على الأدوية والمساعدات ودون سيادة منزوعة السلاح إلا السلاح الذي يقف في وجه المقاومة لأن فيه خطر على مشروع الدولة العتيدة. واقتنع العرب بفكرة الدولة الوطنية تحت عباءة الدولة القومية، وتحول الصراع من صراع بين الشرق والغرب أو بين الدولة الإسلامية والدول الطامعة، إلى حرب بين دول فيما بينها تدعي السيادة حيث لا سيادة، بل أصبح العدو والجسم الغريب " كإسرائيل" حليفاً بينما من يقاومها عدواً باسم المصلحة القطرية الضيقة، بل لا ضير أن يقتل العدو الصهيوني ما يقتل، فهو صديق، ولا ضير أن يرفرف العلم الصهيوني في قلب العواصم العربية، فيما رفع علم فلسطين على أحد المؤسسات في القاهرة انتقاص من السيادة! فقتل العدو لأكثر من خمسين مصري في الأعوام الثلاثين الماضية لا يضير، لكن قتل جندي على الحدود في ظروف لم تتضح معالمها بعد في ظروف حرب وخوف وتوتر جريمة يهدد الأمن القومي، وأصبح الأمن العربي لا تهدده دولة يهود بل تهدده مقاومة شعب يبحث عن حقوقه التي أضاعها زعامات وقيادات عربية خرقاء ما زال العرب والمسلمون يدفعون ثمن ضريبة لقراراتهم الجاهلة.
وعلى نفس الطريقة وبنفس الأسلوب واستعباطاً لنفس العقول، يتشدق الغرب بالديمقراطية، دولة "إسرائيل" يحق لها فعل أي شيء حتى لو كان القتل والتدمير والحرق واستخدام الأسلحة المحرمة لأنها دولة ديمقراطية، ويحق لأمريكا التعذيب وفتح السجون والمعتقلات في أرجاء الدنيا لأنها دولة ديمقراطية، وكذلك الغرب كله يحق له ذلك لأنه ديمقراطي، أما حركات المقاومة والدفاع عن حقوق الشعوب فهي إرهابية لأنها لا تجاري الغرب وتتصدى للعملاء والمندسين. هذا المنهج الساذج هو الذي استنكره الطيب أردوغان على الحاضرين في دافوس حينما صفقوا لبيرس الذي ظن أنه يملك الحجة في كلامه فكان كلامه أمام العقول الغير خانعة والحرة كورق هزيل ابتل بماء حيث لم يعد له أثر، وهذا ما دفع مدير اللقاء ليحاول إيقاف أردوغان بعدما اتضح له ضعف المنطق الذي عاش عليه طيلة حياته السياسية. اللافت للنظر أن أردوغان أثبت ضعف حجة الغرب وضعف قدرتهم على التفكير وضعف الإقناع للعقول التي نمت على العزة وتشربت من نور الإسلام، فلا تذهبها الكلمات البراقة يميناً ويساراً بل تزنه بميزان العقل الحر المبدع وهو ما لم يستطع عمرو موسى فعله لأنه نتاج العقل العربي الرسمي الذي يسلم بما يقوله الغرب ظاناً بالفهم الصحيح المبدع، وهو نفس الشرك الذي وقع فيه محمد حسنين هيكل حينما لم يجد تفسيراً لوقف العدو لإطلاق النار من طرف واحد سوى طلب أوباما للعدو ذلك، ناسياً الصمود البطولي والخسائر التي وقعت في العدو وصمود وقوة المقاومة في قطاع غزة.
القضية إذاً قضية ثقافة، إما ثقافة ذل وإن تستر أهلها بالعقلانية والواقعية وادعائهم عدم حب إراقة الدماء والدمار وكأن هناك شعباً عبر التاريخ تحرر دون ثمن أو فكرة انتشرت دون تضحية!، وإما ثقافة العزة وإن بدا أن ثمنها دمار وأشلاء ودماء وإن نعتها البعض بالتهور والغوغائية عدم الفهم وبإقامة إمارة ظلامية هنا وهناك.
لقد استغل الغرب مصطلحات براقة كالحرية والإستقلال والمساواة والدولة والإخاء وغيرها من المصطلحات ليحشوا بها بعض العقول والأفكار وتقزمت القضايا فاستبدل التحرير بقيام دولة ولو على أي شبر وأي قطعة، ولو دولة تحت الإحتلال وأصبح هم الدولة أهم من هم الأمة، كما فعل النظام المصري والأردني والموريتاني والقطري وغيرها، ضاربين بعرض الحائط عموم الأمة ومصالحها، بل إن موقف النظام المصري من الحدود مع غزة هو محاولة تعويض إسقاطات كامب ديفيد على حساب مصالح الأمة الإسلامية وحقوقها في فلسطين، وذلك بزيادة عدد أعضاء الجنود المصريين على الحدود مع مصر مقابل التضييق على أهل غزة وعلى المقاومة، بل العجب من المنطق القائل بأن العدو يجب مراقبة ما هو داخل وخارج للقطاع بحجة أنه محتل، ذلك المنطق الذي كان يجب أن يفعل كل ما يمكن فعله للتعمية على العدو ودعم المقاومة بالسلاح.
بقي أن نقول أن كل هذا لن يثني أصحاب الحق من الدفاع عن حقوقهم، فالتحرير قبل الدولة، والأقصى أهم من كل شيء لأنه جزء من عقيدتنا والحق أبلج، وكل هذه المصطلحات لن نلهث وراءها لأن في ديننا وتراثنا ما هو أسمى وأرقى منها، والرجوع للتمسك بهذه المصطلحات هو رجوع للتمسك بالقبلية والعشائرية والرجوع لقصص ووقائع شبيهة بداحس والغبراء.