استثمارات 147.3 مليون جنيه تعزز أداء شركة الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء    مدبولي يناقش عددا من خريجي مبادرات وزارة الاتصالات وأصحاب الشركات الناشئة حول مشروعاتهم    وزير خارجية تشاد: نتطلع للتعاون مع مصر في البنية التحتية وإنشاء ممر بين القاهرة وبنجامينا    المعارضة الإسرائيلية تهاجم قرار الحكومة بشأن تشكيل لجنة تحقيق غير رسمية بأحداث 7 أكتوبر    إمام الأقصى بعد تحديد موعد محاكمته: لن نغير مواقفنا من الاحتلال    شراكة أوكرانية يونانية جديدة بشأن إمدادات الغاز.. مراسلنا يكشف التفاصيل    كالافيوري يغيب عن إيطاليا وأرسنال يدرس مشاركته أمام توتنهام    وزير الرياضة يقدم واجب العزاء في الراحل محمد صبري    جابرييل يغيب عن أرسنال بسبب إصابة مع منتخب البرازيل    تأجيل محاكمة سارة خليفة و27 آخرين في قضية المخدرات الكبرى ل18 نوفمبر    الداخلية تكشف ملابسات فيديو تحميل ركاب بمقابل مادي في محيط المتحف المصري بالتحرير    تامر أمين: المتحف المصري الكبير أعاد شحن بطارية الانتماء لدى المصريين    وزير الثقافة: مشروع أكاديمية الفنون في الإسكندرية ترجمة حقيقية لرؤية الدولة لنشر التعليم المتخصص    آخر تطورات الحالة الصحية لعمر خيرت.. حالته مستقرة ويجرى فحوصات على الصدر    مسكن بحيوات كثيرة    داعية توضح حكم منع الميراث من زوجة الأب الثانية    أمين البحوث الإسلامية يتفقد منطقة وعظ أسيوط لمتابعة الأداء الدعوي    ألبانيا ضد إنجلترا.. شوط سلبى بتصفيات كأس العالم    مصر تتجاوز مليار دولار في الأمن السيبراني وتستعد لقيادة الحماية الرقمية    وزير الاستثمار: مصر تتطلع للتعاون مع تشاد في تنفيذ اتفاقية منطقة التجارة الحرة    "علوم" القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "أنت أقوى من المخدرات" غدا الإثنين.    هاني تمام: برنامج دولة التلاوة أعاد الريادة لمصر وجمع المصريين حول القرآن    منتخب مصر بالقميص الأحمر والأسود أمام كاب فيردي غداً    ما حكم الامتناع عن الإنفاق على الزوجة والأولاد؟.. أمينة الفتوى تجيب    هاني تمام: برنامج «دولة التلاوة» جمع المصريين حول كتاب الله    حصر وجمع طيور البجع بطريق السخنة    توقيف أفراد من وزارتى الدفاع والداخلية السورية بعد تحقيق فى أحداث السويداء    قضايا الدولة تفتتح مقرا جديدا لها بالوادي الجديد (صور)    طريقة عمل الدجاج المشوي المسحب بتتبيلة لا تقاوم    محافظ الجيزة: الشعار الجديد للمحافظة يجسد إرثها الحضاري والعلمي    تعليم دمياط يواصل لقاءات مبادرة صوتك مسموع    لا خلاف بين الحضري وحسام حسن.. المنتخب جاهز لكأس العرب    الأهلي يستعد لتجديد عقد أحمد عابدين حال عدم تلقي عرض من فاماليكاو البرتغالي    نجل محمد صبري: والدي لم يكن يعاني من أي أمراض.. وطريقة لعبه تشبهه في كل شئ    انطلاق حملة التطعيم ضد الحصبة للأطفال حتى 12 سنة بأسوان.. صور    بتوجيهات شيخ الأزهر .. دخول قافلة «بيت الزكاة والصدقات» الإغاثية الثانية عشر إلى غزة    حلا شيحة : دينا الشربينى جدعة ونيتها طيبة ومش خرابة بيوت ولكل من خاض فى عرضها اتقوا الله    بسبب معاكسة فتاة.. التحقيق مع طرفي مشاجرة بشوارع المطرية    زراعة بنى سويف تعاين مزرعتى ماشية و4 للدواجن وتصدر 6 تراخيص لمحال أعلاف    الطقس: استمرار تأثير المنخفض الجوي وزخات متفرقة من الأمطار في فلسطين    وزير الصحة يكشف مفاجأة عن متوسط أعمار المصريين    10 محظورات خلال الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب 2025.. تعرف عليها    مواعيد وضوابط امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    وزارة «التضامن» تقر قيد 5 جمعيات في 4 محافظات    جهاز مستقبل مصر يقود سوق القمح نحو الاكتفاء الذاتى عبر زيادة المساحات الزراعية    الجامعة العربية: قطاع التعليم في مقدمة القطاعات التي استهدفها الاحتلال    جامعة قناة السويس تُطلق مؤتمر الجودة العالمي تحت شعار «اتحضّر للأخضر»    "الداخلية" تصدر 3 قرارات بإبعاد أجانب خارج البلاد لدواعٍ تتعلق بالصالح العام    انطلاق أسبوع الصحة النفسية لصقل خبرات الطلاب في التعامل مع ضغوط الحياة    الفسطاط من تلال القمامة إلى قمم الجمال    أيمن عاشور يبحث سبل التعاون مع وزيرة التعليم والعلوم وسفيرة دولة مقدونيا الشمالية بالقاهرة    منافسات التارجت سبرنت تشعل اليوم الحادي عشر ببطولة العالم للرماية    الأوقاف تعلن عن المقابلات الشفوية للراغبين في الحصول على تصريح خطابة بنظام المكافأة    مصر تواصل تقديم شاحنات المساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة في قطاع غزة    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكي بالذخيرة الحية في المنطقة الغربية    30 دقيقة تأخرًا في حركة قطارات «القاهرة - الإسكندرية».. الأحد 16 نوفمبر    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 16نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا..... اعرف مواقيت صلاتك    محمود حميدة عن إحراج الناس بردوده: مش قاصد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفكيك التعليم .. وتفكيك الأوطان
نشر في نهضة مصر يوم 16 - 09 - 2009

مما هو معلوم في علوم التربية والنفس أن من أفضل "اللعب" ذات الفاعلية في تربية الأطفال من حيث تنمية تفكيرهم، هي تلك اللعب التي تقوم علي التفكيك والتركيب، علي أن تتدرج اللعبة من حيث مستواها: في أجزائها وما يكون بين هذه الأجزاء من علاقات فك وتركيب، بتدرج مراحل النمو التي يمر بها الطفل . وعلي هذا فإن "اللّعَب" المصمتة، التي لا تُفك، قليلة الأثر في التنشئة، لأن اللعب بها لا يتطلب تفكيرا وإعمال عقل.
ومن خبراتنا في الحياة نجد أنه عندما تداهمنا مشكلة، وتصل إلي درجة ملحوظة من التعقيد بحيث نحار في حلها، يكون السبيل الأفضل، هو أن نقوم بعملية "تفكيك" لعناصرها ومتغيراتها، فكثيرا ما يساعد ذلك علي حسن الفهم ورشد الإدراك، ومن ثم يتيسر البصر بالحل المنشود.
وقد عرف الفكر الفلسفي منذ ما يزيد علي نصف قرن فلسفة تقوم علي "التحليل"، علي أن يكون موضوع التحليل هو "الكلام" الذي يقول به العلماء والمفكرون، من أجل البحث عن مدي السلامة المنطقية التي هي السبيل لحسن إدراك المعاني الحقيقية، ولعل بعض القراء يذكرون الفيلسوف البريطاني الراحل برتراند رسل، الذي كان قطبا كبيرا من أقطاب هذا الاتجاه، فالتحليل هنا أيضا كان طريقا إلي حسن الفهم والإدراك.
وهكذا... استخدامات مختلفة للتفكيك تؤكد أنه سبيل منشود، ووسيلة تعين الإنسان علي حسن الفهم والوعي والإدراك والتنمية العقلية والوصول إلي حلول لما يواجهنا من مشكلات.
لكن التفكيك يمكن أن يكون علي العكس من هذا تماما... مخربا.. مدمرا، فمتي يكون ذلك؟
يكون كذلك عندما لا يعقب التفكيك، خطوة تالية، هي "التركيب"، لأننا لا نتعامل في الحقيقة مع عناصر الشئ، كلا علي حدة، وإنما في "كليته"، أو صورته الكلية المركبة، فإذا كان لدينا جهاز ما أصيب بعطل، وذهبنا به أو جاءنا "فني" صيانة، نجده يقوم "بفك" بعض الأجزاء ليبحث ما أصابها من فساد، ثم لابد بعد ذلك أن يعيد الأجزاء التي فككها، لأننا بالفعل لا نتعامل _ مثلا _ مع الثلاجة إلا في شكلها "المركب"، وكذلك مع السيارة،والتليفزيون، والساعة، إلي غير هذا وذاك من أشياء مركبة.
فماذا إذا قام إنسان بتفكيك جهاز، وتركه لنا هكذا مبعثرا؟
من المؤكد أن تتعطل وظيفته تماما، ويفقد دوره في حياتنا...
وافرض أيضا أن إنسانا بعد أن قام بالتفكيك، قام بالتركيب لكن علي نحو آخر يغاير كثيرا ما نحن بحاجة إليه وما نطلب، هل يمكن أن يزعم أنه قام بما ينفعنا ويصلح لنا؟
هكذا الشأن فيما نراه في عالمنا العربي ككل، وما نراه في بعض بلداننا...
أكثر الأمثلة وضوحا وإيلاما حقا هو ما صار عليه الأمر في العراق...
كان وطنا واحدا يعتبر في مقدمة القوي الكبري في الوطن العربي.
كنا نعرف أنه مكون من مذاهب شتي، ومن أعراق متعددة، لكن كل هذه المذاهب، وكل هذه الأعراق انتظمتها وحدة وطنية، جعلت من العراق قوة يحسب حسابها، ولاعبا أساسيا في الشرق الأوسط يشارك في التسيير والتوجيه، فماذا حدث منذ بدأ الغزو الأمريكي؟
من بين مصائب عدة لا مجال هنا للإشارة إليها، حدث "تفكيك" لهذا الوطن الكبير...، يكاد ينتهي بتجزئة العراق إلي ثلاث أجزاء: شيعية وسنية وكردية، وكل منها لابد أن تكون أضعف كثيرا من العراق الموحد...
فالتفكيك يتم في العراق بالتنازع المسلح، والتخويف، وبث بذور الشقاق والكراهية، ليتمزق هذا البلد العظيم، فيفقد العرب ركنا خطيرا من أركان نظامهم.
وقد يعاد "التركيب"، لكن في صورة "كونفيدرالية"، لا تكون محصلتها أبدا بالقوة التي كان عليها العراق من قبل عندما كان موحدا بغير نزاع.
قد يكون النظام الحاكم السابق قد ظلم طرفا علي حساب طرف، لكن هذا مما يمكن تلافيه بالعديد من الوسائل، بغير التفكيك والتجزئة، وهذه هي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، أكبر تجمع لعناصر شتي، عرقية ومذهبية ودينية وثقافية، ومع ذلك فقد استطاعت أن تلتئم في وحدة واحدة جعلت منها أضخم وأكبر قوة في العالم، منفردة، ومهيمنة.
ربما تكون المصطلحات المستخدمة، مثل "التفكيك" و"التركيب" جديدة إلي حد ما، لكن معانيهما قائمة منذ زمن بعيد، حيث نذكر جيدا كيف كانت السياسة الاستعمارية، فرنسية وبريطانية وإيطالية وهولندية وأسبانية وبرتغالية وغيرها تقوم علي ما كان يعرف بسياسة "فرق تسد"، فالتفريق، يجزئ الوطن، وتجزئة الوطن، فضلا عما تؤدي إليه من إضعاف، فهي تيسر للقوة المهيمنة أن تحكم وتتسيد وأن تفرض شروطها.
وعندما انتصر حزب الله اللبناني الشيعي عام 2006 علي أقوي دولة في الشرق الأوسط، دولة الكيان الصهيوني لاحظنا ظهور أحاديث ومناقشات عن السنة والشيعة، واستدعاء من مخزون التاريخ البعيد أحداثا ووقائع سلبية عن الشيعة... كل ذلك، حتي يحرم العرب من الشعور بمتعة الانتصار، ذلك أن بث روح الانهزام أمر مطلوب وله دوره النفسي في استمرار الانكسار وتعطل التفكير في المقاومة، والجنوج إلي الاستسلام.
لقد كانت تلك صورة من صور "التفكيك" لجملة مسلمي الوطن العربي.
وفي وطننا الغالي مصر، تحتفظ ذاكرتنا بمئات الصور والوقائع والأحداث التي تجمع بين مسلمي مصر وأقباطها في وحدة تبعث علي الفخر، فما الذي جعلنا وقد تعودنا أن نقرأ في الصحف والمجلات، بين حين وآخر، عن شقاق هنا وعراك هناك، وحوارات "طرشان" نشاهدها أحيانا علي شاشات التلفاز بين أطراف، يخيل للمشاهد أثناءها، وكأن مصر بسبيلها إلي "التفكيك" كوطن يجمع كل من ينتسب إليه!
في كل صور التفكيك التي نشهدها، في الوطن العربي، وفي وطننا مصر، لا تخطئ البصر بالدور الذي يقوم به التعليم علي هذا الطريق المؤسف حقا المحزن فعلا...
كان التعليم في مصر بوتقة مجتمعية تضم جميع أبنائنا الذين أملنا أن يحصلوا علي أعلي مرتبة يمكن أن يصلوا إليها من التعليم...
ثم جاء الشعار الذي ينطبق عليها القول الشهير "قولة حق يراد بها باطل"..
قالوا إن الدولة لم تعد قادرة علي سد مطالب كل من يريد أن يتعلم، ولا بد من فتح طريق للرأسمال الخاص كي يساهم علي الطريق، فماذا حدث؟
قبل ثورة يوليو، كان التعليم الجامعي غير مجاني، لكن كانت هناك "سبل"، عن طريقها يستطيع بعض الفقراء أن يتمتعوا بهذا التعليم، أبرزها "التفوق" مما مكن مثلنا ومئات غيرنا، أن نتعلم ونصل إلي أعلي المستويات..
أما الآن، فلا سبيل إلي ذلك : الطالب أمامه خيارين: إما تعليم شبه مجاني، لا يقدم إلا خدمة هزيلة، وإما تعليم جامعي خاص يحتاج إلي ألوف وألوف، لا يستطيعها كل الفقراء.
وكان التعليم قبل الجامعي في فترة من الزمن أيضا غير مجاني، لكن التعليم الخاص، كان لا يتطلب إلا ما يزيد عن التعليم الحكومي بمقدار بسيط، لكن القطاع الخاص الآن يتطلب مبالغ طائلة، لو جمع أي خريج جامعي كل ما سوف يتسلمه راتبا شهريا طوال فترة حياته العملية، فلن يستطيع أن يصل إلي مصروفات بعض رياض الأطفال!
إنها عملية تفكيك للوطن بين أغنياء وفقراء...
صحيح، طوال التاريخ، هناك في كل مجتمع أغنياء وفقراء، لكن ما يحدث الآن هو عملية " تمكين " لمن يملكون، بغض النظر عن الاستحقاق العقلي والجدارة الشخصية، حيث يستطيع المال الآن أن يشتري الخدمة التعليمية، بل ويشتري المجاميع العالية والنجاح في الامتحانات، لا بتلك الطرق المحرمة قانونا، وإنما _ كما يقولون _ كله بالقانون وبالحلال!
فالطلاب اليوم في حقيقة الأمر لا يهمهم أن "يتعلموا"، وإنما أن "ينجحوا"، ثم لا يتوقفون عند هذا الحد، وإنما ينجحون بتفوق، فما الفرق؟
في الحالة الأولي، لابد من مذاكرة كل الموضوعات وقراءة كل الصفحات مرات ومرات، أما في الحالة الثانية، فيكفي أن تتعلم مهارة الإجابة علي أسئلة الامتحان، بأن تتدرب علي الإجابة علي مجموعات الامتحانات القليلة الماضية، حيث لا تخرج الامتحانات التالية عنها.
ولأن الطالب "لا يتعلم"، فإنه لا يستطيع الإجابة بنفسه مباشرة، وهنا تجئ مهمة الدرس الخصوصي... إنه لا يقوم بمهمة "تعليم"، وإنما بمهمة تدريب علي كيفية الإجابة علي أسئلة الامتحانات، ولا يستطيع تحمل تكلفة هذه الدروس إلا الأغنياء، وبالتالي لا يصعد عبر مراحل التعليم، وخاصة العالي، إلا من كان علي قدر من اليسر المادي، وبالتالي تتم خطوة خطيرة علي طريق تفكيك "الجماعة المصرية" إلي فقراء يتسولون ويجوعون ويتعرون ويتشردون، وإلي أغنياء يملكون ويشبعون ويتعلمون، حتي ولو تم هذا بالنصب والاحتيال والسرقة، فنوعيات من هؤلاء قد تسربوا إلي مواقع سلطة وتشريع قادرة علي حمايتهم طالما ظلوا علي الطريق المراد لهم، سواء من قوي الهيمنة في الخارج، أو وكلائهم بالداخل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.