منذ دخلت زراعة القطن لمصر في عصر محمد على باشا في القرن التاسع عشر، أنشأت مئات المحالج والمصانع التي قامت على هذا المحصول الإستراتيجي واحتلت مصر المرتبة الثانية عالمياً في إنتاج القطن طويل التيلة بعد الولاياتالمتحدة وظل القطن محصول الصادرات الرئيسي لمصر طوال مائة وخمسين عاماً؛ وقامت عليها صناعات حلج القطن وعصر الزيوت والصابون التي امتلك معظمها الأجانب من غير المصريين؛ ثم قامت صناعة الغزل والنسيج واتسعت مع تأسيس مصر وشركات المحلة الكبرى؛ وبعد ثورة يوليو 1952 تم التوسع في إنشاء مصانع الغزل والنسيج والزيوت والصابون المعتمدة على محصول القطن كما تم تأميم المحالج المملوكة للأجانب وأصبحت ملكاً للشعب منذ عام 1961. ونتيجة لمنافسة المحصول المصري للقطن الأمريكي ثم استخدام جزء كبير منه في التصنيع داخلياً وإنتاج الغزول المتنوعة والأقمشة القطنية المتميزة؛ بدأت الولاياتالمتحدة في اتخاذ سياسات تهدف إلى ضرب زراعة وصناعة القطن المصري ومع تطور سياسة الانفتاح منذ منتصف السبعينيات؛ بدأت الدولة في بيع بعض المصانع المملوكة للقطاع العام وكان على رأسها محالج القطن فتم تخصيص محالج الشركة العربية لحليج الأقطان 15 محلجا ومحالج شركة النيل 12 محلجا للبيع بنظام الخصخصة؛ وحصلت مجموعة من المستثمرين على ملكية محالج الشركة العربية مقابل 90 مليون جنيه فقط وقام المشترون بتحويلها إلى شركة مساهمة وطرح أسهمها في البورصة؛ وقد أسهم المستثمر الرئيسي الذي تولى وزارة الزراعة في القضاء على معظم المساحة المخصصة لزراعة القطن حتى تغلق المحالج التي اشتراها ولا تجد قطنا كافياً لتشغيلها كي يحولها إلى أرض للبناء حيث تقع في مواقع متميزة يرتفع فيها سعر الأرض إلى أرقام فلكية. وتملك الشركة العربية محلجا بمدينة زفتى يقع على النيل في أجمل وأغلى موقع في المدينة؛ بل في محافظة الغربية كلها؛ التي لا يتبعها على فرع دمياط غير مدينة زفتى؛ فقامت الشركة بإخلاء المحلج من الآلات ونقل العمال إلى محلج ناءِ في محافظة البحيرة ثم انتهزت فرصة سقوط نظام مبارك والفوضى التي تبعته واتخذ مجلس إدارتها قراراً بتحويل أرض المحلج لمشروع سكني سياحي تجاري إداري وتقدمت لرئيس مجلس مدينة زفتى في 13/4/2011 طالبة تقسيم الأرض واعتماده من المجلس المحلي تمهيداً لاعتماده من المحافظ، والهيئة العامة للتخطيط العمراني بل بدأت في طرح الأرض للبيع بالمزاد التي وصل سعرها إلى 89 مليون جنيه، وهبت العناصر الشعبية والوطنية في المدينة وتظاهروا أمام الموقع واعتصموا رافضين بيع أرض المحلج أو البناء عليها مطالبين بعودته كما اشترته الشركة مصنعا لحلج القطن وإعادة العمال الذين شردوا إلى محلجهم الذي بنوه وطوروه بعرقهم وجهدهم وتقدم الأهالي بمذكرة لمحافظ الغربية في 1/5/2012 مطالبين بعدم تقسيم أراضي المحالج بالمدينة أو إصدار تراخيص بالبناء عليها وقام المحامي صبري جاد رئيس مركز مناهضة الفساد الذي انضم فيما بعد لحركة تمرد مع مجموعة من المحامين برفع دعوى تطالب ببطلان بيع أسهم الشركة العربية وشركة النيل لحليج الأقطان، واستجاب محافظ الغربية للمذكرة وأصدر قراره بوقف التراخيص بالتقسيم والبناء على أراضي المحالج بالمدينة في 1/7/2012 استجابة للأهالي الذين أوقفوا تظاهراتهم واعتصامهم. وأكد ياسر أغا نائب رئيس حزب مصر 2000 وصبري جاد رئيس جمعية مناهضة الفساد؛ أن الشركتين مازالتا تصران على إغلاق المحالج وبيع أرضها اعتماداً على قرارات جمعياتها العمومية كشركات مساهمة؛ وقد تم بيع محلج المنيا والبناء على أرضه فعلا مما يكرس لقطع الطريق نهائيا أمام عودة مصر لإنتاج محصولها الرئيسي الذي دعم الاقتصاد المصري زراعته وصناعته طوال قرن ونصف من الزمان؛ وأصبحت المصانع الباقية للغزل والنسيج في مصر تستورد القطن القصير التيلة للاستمرار في العمل؛ وصارت مهددة بالتوقف وانهارت كثير من الصناعات المصاحبة كالزيوت والصابون وأصبحت تستورد خاماتها من الخارج. هذا الواقع المؤلم ليس كابوسا أو أضغاث أحلام وإنما هو واقع يؤكد تغلغل الفساد والتربح وسرقة المال العام وتدمير الاقتصاد القومي لصالح أفراد لا يعنيهم الوطن؛ ولا تعنيهم مصر ولا شعبها الكادح أمام أطماعهم ومصالحهم الخاصة التي تدمر زراعة محصول إستراتيجي وتخرب صناعات متعددة قامت عليه؛ وحافظت على نهضة زراعية وصناعية وحضارية أسهمت عشرات السنين في دعم اقتصاد الأمة والتغلب على مشكلاتها.