في أسيوط يقول الحاج أحمد جابر لم يعد هناك شيء من عيشة الفلاح القديمة سوي الذكريات التي نحملها داخل وجداننا من عبق الماضي الذي كنا نحياه حيث كان الترابط الأسري والاجتماعي هو العنوان الأبرز في حياة الفلاح الذي كان دائما في سباق مع الحب والخير والمودة والمعيشة البسيطة التي كانت تؤلف بين الناس وتقرب بينهم. أما اليوم مع المدنية الفجة أصبح الانشغال والبعد هما السمة الرئيسية للمجتمع الريفي الذي يعد الفلاح هو عموده الرئيسي.. يصف علي محمود "60 سنة" من قرية كردوس أن معيشة الفلاح القديمة أفضل كثيرا من المعيشة الحالية رغم التطور الكبير في حياتنا إلا أن كل الأشياء لم يعد لها طعم حتي الأيام لم يعد فيها بركة فقديما كنا نخرج الي الحقل قبل طلوع الشمس ونحمل الفأس علي كتفنا ونظل نعمل لغروب الشمس دون كلل أو ملل وكنا نسترح في الظهيرة تحت أشجار النخيل ونأكل وجبة الغداء المكونة من العيش الفلاحي "البتاو" وهو مصنع من دقيق الذرة الرفيعة. بالاضافة الي البصل والجبن القديمة ونشرب الشاي ونعود الي العمل وعندما ينتهي النهار نعود الي المنزل لنلتقي بالأسرة والأولاد. يلتقط طرف الحديث ابن عمه محمود محمد علي قائلا بعد العودة الي المنزل يقوم الفلاح في الغالب بالاستحمام في "التشت البلدي" ويلتف حول "الطبلية" مع أولاده لتناول وجبة العشاء التي كانت في الغالب من البصارة أو الباذنجان والفلفل أو العدس أو الفول طوال أيام الأسبوع ماعدا يوم الخميس الذي تقوم فيه الأسرة بطبخ اللحوم ان وجدت أو الاستعاضة عنها بدجاجة وان لم يكن فهناك العجائن مثل الفطير المشلتت أو المخروطة أو الرقاق وهو عبارة عن عجينة القمح التي تلف بالدقيق ويتم ادخالها في الفرن البلدي أو الكانون وبعد طهيها يتم تقطيعها ويضاف اليها السمن البلدي وتؤكل بالعسل أو الجبن القديم . يقول العمدة خلاف عبدالباسط من قرية المواطين ان المثل البلدي الذي يقول "علي قد لحافك مد رجليك" كان النموذج الأمثل لحياة الفلاح في العهود الماضية الذي كان لا يشغله في حياته سوي أن يكون راضيا عن معيشته وسعيدا بأسرته فلم يطمح الي أشياء تضيق عنها ذات اليد ولذا كانت القناعة عنوانا لحياته ولذا نجد أن البيوت الريفية القديمة مقسمة الي عدة حجرات غالبا تكون من دورين مبناه من الطوب اللبن ومسقوفة بجذوع النخل والجريد وكانت مكيفة تكييفا طبيعيا لا تشعر ببرودة الشتاء أو حرارة الصيف القاسية داخلها. لأن حوائطها السميكة كانت حاجزا طبيعيا للظروف المناخية خارجا. يتحدث يوسف حسين حديثه عن حياة الفلاح في الماضي بتأثر شديد وخاصة من ناحية الصحة البدنية للإنسان وما شاع من أمراض اليوم قائلا كان الفلاح يشرب السمن البلدي طوال حياته وخاصة أصحاب المقدرة المادية ويأكلون لحوم الضأن ولم يتأثروا بأي أمراض بل يعمرون في الحياة ويبلغون تسعين عاما أو مائة عام دون ترهل أو هرم. بل ان القوة البدنية للفلاح كانت تلازمه طوال حياته والأمثلة علي ذلك شائعة وكثيرة وذلك لحفاظهم علي صحتهم سواء من ناحية النوم أو الأكل أو العمل. يقول سمير رشوان "60 عاما" كلما أتذكر الماضي يشدني الحنين الي حياة الآباء والأجداد التي كانت في غايتها بسيطة وفي وسائلها سهلة رغم عدم المقومات الحالية سواء من الحداثة أو التكنولوجيا وكان جهاز الراديو لا تجده إلا في بيوت الأعيان أو العمد الذي يجتمع عندهم العامة لسماع القرآن أو المواويل الشعبية أو التمثيليات التي تعبر عن واقعنا الصعيدي أما ما حدث اليوم من دخول التكنولوجيا الحديثة بيوت الفلاح كان لها تأثير سلبي علي حياته فإصابته بالوهن والكسل وهو ما أدي الي ضعف الجسد الذي أصبح عرضة للأمراض نظرا لضعف مناعته الطبيعية التي كان يفرزها الجسد من المجاهدة والأعمال الشاقة مثل "عزق" الأرض وحرثها وريها وفلاحتها وحمل المحاصيل وهو ما يعطي الجسد قوة أما الآن فأصبح الضعف البدني عنوان الفلاح بعد أن غزت جسده المدنية. ويبرز سيد خلاف جانبا مهما من أسباب تدهور عيشة الفلاح هو التقليد الفج لكل ما هو مستورد وترك الكثير من المأثورات في حياة الفلاح المصري بينما يقول العمدة أسامة عبدالرءوف انه في السابق كانت الحياة مختلفة تماما عن الوقت الحالي حيث إنها كانت مليئة بدفء التقارب والوحدة بين الناس وبعضها فكنا نجتمع مع بعضنا في الجلسات التي نتدارس فيها أحوالنا الكل يعرف بعضه ربما ليس فقط تدارس الحياة بل المشورة فيما في شئون حياتنا الخاصة والعامة لكن لسان حال اليوم هو العزلة والوحدة يعود كارم أيوب بذاكرته الي العصر الذهبي للفلاح حيث كان انتظار حصاد المحاصيل الزراعية بمثابة الأعياد خاصة محصول القطن الذي كان يعتبر الدخل الرئيسي للفلاح وكان يعتمد في معيشته اعتمادا كليا علي العائد منه مثل بناء المنزل أو شراء أرض زراعية أو تزويج أبنائه حيث كان معروفا موسم جني القطن بموسم الزواج. أما الآن فالأمر أصبح مختلفا بعد ان ضاعت ملامح ذلك المحصول وسط المحاصيل الجديدة وخاصة الصيفية التي لم تعطي عائدا للفلاح بل لا تكفي الإيجار أو المصروفات. يقول العمدة جمال فاروق إنني عاصرت الماضي وها أنا في الوقت الحالي أعاصر الجديد بكل تقنياته وتقدمه. كل ما به من تقدم في جميع مناحي الحياة لكن الماضي كانت تحفه البركة في كل شيء وأبسط شيء فعلي سبيل المثال كان الشاب يمكنه ان يتزوج ويفتح بيتا بقليل من المال ويمكنه ان يعيش في بيت العائلة الذي يمكنه ان يسع 20 فردا. أما الوقت الراهن فعلي الشاب لكي يتزوج ان يحصل علي آلاف الجنيهات كي يتمكن من شراء مسكن وغيره من الطلبات المغالي فيها في عصرنا الحالي والتي أدت الي عزوف الشباب عن الزواج. يتساءل حنفي سلامة قائلا هل يعني التقدم والتطور الذي جاءت به التقنيات الحديثة أن نجد التفكك الذي حدث بيننا نحن كأسرة واحدة أم أن هذا التطور هو الوسيلة التي تم استخدامها كي يعيش كل منا في عالم خاص به بعدما كانت تجمعنا "الطبلية" في المساء ونلتف حولها كي يجد كل من أخيه بجواره ويجد الأب أبناءه جميعا وأحفاده أيضا دون الشعور بالضيق أو الزحام الذي أصبحنا نعاني منه في وقتنا الحالي.