ارتبط المصرى، منذ القدم، بنهر النيل، فشدا له وطرب واحتفل به كل عام فى عيد وفاء النيل، فى النصف الثانى من أغسطس، وهذا التوقيت كان يأتى مع فيضان النيل، فتغمر مياه الحياض الأرض الطينية، ويعود الفلاحون إلى سكناهم فى المدينة، ويظلوا كذلك أربعة شهور بدون عمل، وتستغل الأرض الفرصة فى النعيم بهذه التربة الجديدة، فتنقى ما بها من أمراض وآفات وتحصل على قسط من الراحة، وتخلو من الأشجار والنخيل وسكنى البيوت، ويلهو الفلاح وتلعب الأطفال وتصبح الإجازة تربة خصبة للارتباط العاطفى والزواج والإنجاب. تلك طبيعة إلهيه منحها الخالق للفلاح وللأرض، وعند العودة تجد أن الأرض تنفست الصعداء ومزودة بكل ما يعينها على أبنات المحصول الشتوى الذى لا يستغرق سوى ثلاثة أشهر فترى سنابل القمح وزهرة الفول البلدى ولا تجد "الزمير"، آفة القمح، ولا الهالوك وهو آفة الفول ولا الحامول وهو آفة البرسيم. وعندما أراد عبد الناصر بناء السد العالى الذى شرع فيه بعد العدوان الثلاثى 1956 وانتهى منه فى عام 1961 وبنينا السد، والحكاية مش حكاية سد، لكنها حكاية الشعب الذى هو وراء السد. غنى عبد الحليم وأم كلثوم عبر شاشات التلفاز الذى انطلق قبل ذلك بعام، وتم بناء برج القاهرة فى العام نفسه، وبدت إنجازات ثورة 23 يوليو تتحرك ويلمسها رجل الشارع. انحسر الفيضان وانتهى تاريخه وراحت أيامه ولياليه وأضحى الفلاح المصرى يقيم إقامة دائمة فى أرض، فشيد البيوت بالطوب الأحمر وقامت الأشجار والنخيل، فبعدما كنت ترى القطار على بعد عشرة كيلو مترات لم تعد حتى تسمع صورته على بعد مترين من شدة المبانى الخرسانية التى آذت الأرض وضعفت الإنتاجية وقل الخير إلى درجة العدم. وبدأت المعاناة فى السبعينات والثمانينات من كثرة المبانى على الأرض الزراعية بعد أن تآكلت بنسبة 15% وضعفت الإنتاجية وتراجعت للوراء وبدأ مراحل البحث عن الأسمدة والسوبر فوسفات لتقاوم الآفات وتعود خصوبة الأرض إلى ما كانت عليه ولكن – هيهات – انتشرت الآفات الزراعية التى ألمت بالقطن وهو ذهب مصر الأبيض الذى انتهى بأيامه ولياليه والحديث عن سواء طويل التيلة أم قصيرها أو حتى بدون تيلة لرشه بالمبيدات عبر الطائرات، وهو ما أضر بسمعته عالميا وأصبحنا نبكى على اللبن المسكوب.. فقلت إنتاجية القمح البلدى إلى درجة إردبين فقط للفدان، بعدما غشاه الزمير فلجأت وزارة الزراعة إلى استيراد تقاوى من الخارج سواء من المكسيك أم أمريكا، أعطت إنتاجية عالية أعادتنا إلى الزمن الجميل، ولكن فقد الرغيف البلدى "الشمسى" رونقه وطعمه الذى كان أشبه الفطير المشلتت وأصبحنا نأكل الرغيف الحديث بآفاته ومساميره ورماله الناعمة، ولم تعد كلمة عيش مطابقة للرغيف. ومعها بدأنا فى استيراد سلالات من الأبقار والجاموس والأغنام أعطت كميات متدفقة من الألبان واللحوم، ولكن افتقدت الطعم وكمية الدسم، فأصبح الفلاح الآن يأكل اللحم بدون أن يغسل يده الذى كانت تظل الرائحة فى يديه وفمه 24 ساعة بعد تناوله لحوم الأسبوع مرة واحدة، وكانت صحة الفلاح قوية رغم شيوع البلهارسيا، إلا أننا لم نكن نسمع عن الأورام أو تليف الكبد أو حتى الفشل الكلوى وبتنا الآن نسمع كل شىء كأننا نشاهد آلام البرد. أما الخضروات التى كنا نسمع عنها، مثل البطيخ والخيار والبطاطس وخلافه، انتهى عصرها فى الأرض الطينية بعد أن كست تربتها طبقة الأملاح وأغرقتها المياه الجوفية التى تسربت من الأرض الرملية لارتفاعها عنها أمتار.. كان الفلاح الذى يمتلك فداناً واحداً وجاموسة يكفيه حياة وتعليما لأولاده من بيع السمن والجبن فقط، الآن أضحى الفلاح يشترى كل شىء بعد أن ترك الأبقار والجاموس عرضة لأولادهم فى رضاعة اللبن كله ولم نعد نرى المرآة المصرية "الفلاحة" تحلب كما كنا نشاهدها وعقمت النوق أن تلد، وبدأنا فى استيراد القعدان – جمع قاعود – وهى صغار الجمال من السودان وتم تخصيص ميناء مخصصا لذلك فى بلدة "دراو" بأسوان أطلقوا عليها "الكرتينة" والجمل السودانى أو ما يسمى جمل الجلب أى المجلوب من السودان، وبمعنى أدق ليس مولداًَ – أى أصيلاً – فيضرب بذراعه، ويرفث برجليه ويعض بفمه أى شخص من على سنامه. اختفى الجمل المولد "البلدى" الذى كان يضرب بقلته فتخرج من فمه بالونة تسر الناظرين إليها من شدة انتفاخها ولا يعض أبداً.. أما الجمال التى شاهدناها تفرق المتظاهرين بميدان التحرير فهى جمال جلب وليس بلدياً وكذلك الخيول هى مستوردة ومهجنة ومدربة. لقد ركب عمدة حصاناً فى الأربعينيات وصعد به سلم القصر الملكى بعابدين، وحيا الملك فمنح العمدة لقب الباهوية وكان الحصان يرقص على أنغام الطبل البلدى ساعات طويلة وعلى صهوة فارسه وليس لهذا علاقة بخيل التحرير. المصرى لا يضر المصرى أبداً وثعبان الريف لا ينفض سمومه للفلاح وكلب الريف كذلك أما الذئب الذى ولدته أنثى الكلب بعد حمله من الذئب بعد فترة وجدوه يعقر بطن الغنم فقال له الفلاح "من أنبأك أن أباك ديب". لقد تم إفساد حياة الفلاح المصرى بفعل فاعل منذ بناء السد وغزو المبيدات المسرطنة وتهجين التقاوى الزراعية وخضار الصوب وفاكهتها فلم نعد نتذوق طعماً لأى شىء ونأكل كأنما نستعطى عقاقير دوائية للحياة كى تستمر. لقد كانت مساحة الأرض الطينية فى مصر 2 مليون فدان، ضاع ثلثها بفعل ما ذكرنا وقمنا بزراعة 4 ملايين فدان فى الصحراء والإنتاجية كما هى كأن هذه البلد رزقها بمعيار وقدر.. والآن نرى بلاد حوض النيل العشرة يحاولون بناء السدود أسوة بالسد العالى الذى فتح شهية أعدائنا لحضن جيراننا على بناء سدود مثله ولم يعلموا أن بلاد المنبع مثل بلاد المصب، فحينما ترتطم المياه العذبة بالمياه المالحة عند دمياط ورشيد تعلو هالة إلى السماء وتعود محملة إلى هضبة الحبشة فتساقط مطراً وهذه دورة طبيعية لا دخل للبشر فيها فلو أرادت دول حوض النيل أن تؤثر على حصتنا فى مياه النيل سوف تحدث مشكلة أمام الجميع وستأتينا مياهنا التى أرادها الله لنا، ولن يستطيع كائن من كان أن يحجب مياه النيل عنا فكما قالت الأساطير أن يهودياً أتى إلى مصر فى سالف العصور وجلس يتعبد ويصلى على دين الإسلام، وهو صائم لمدة أربعين سنة، استطاع بعد ذلك أن يحصل على المرآة والمسلة ونزلت إلى مصر ذبابة الناموس التى أتلفت المحاصيل والمن وهى قطرات الندى التى أكلت خير الأرض ولو صام أربعين أخرى لحصل على كتاب النيل الذى يعتقد المصريون أنه مدفون تحت كوبرى قصر النيل فشيدوا على ناصيتيه أسوداً تحرسه منذ عهد الخديوى إسماعيل. لقد غنى محمد عبد الوهاب للنهر الخالد وأم كلثوم ومطربون شتى ومُثلت أفلام على ضفافه وفوق مياهه كصراع النيل وخلافه.. وسيظل النهر الخالد قبلة المصريين مهما كانت التحديات، وسيظل الخير فى الأرض الزراعية، لو أحسنا علاجها وأهلاً بالسد العالى فهو علامة بارزة على عزة وكبرباء المصريين الذين أتوا بثورة (25) يناير التى غيرت وجه التاريخ، ولكن لابد من مراعاة ظروف الأرض وأحوال الفلاح وإصلاح ما تم إفساده عن طريق المسرطنات التى أفسدت الطعم والصحة ولابد من النقاش بصوت تعلوه نبرة الخوف على المصلحة العامة. علينا أن ننظر للأمام، ونترك الوراء، ونتغاضى عن عيوب يمكن تفاديها وإصلاحها، مع ضرورة ألا يفلت مجرم من العقاب مهما كان ومهما هو كائن لتستقيم الحياة وتعود المياه لمجاريها وتتبوأ مصر مكانتها المرموقة بين العرب والعالم أجمع.. والله على ما أقول شهيد. نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب