كأنما انشق الأوتوبيس عنه. فوجئ به الركاب مع أول محطة وقد صعد مع الصاعدين وانسل بينهم بخفة يحسد عليها حاملاً علي ذراعه بضاعته. وبين المقاعد وقف وصوته يجلجل عالياً بكلمات سريعة متلاحقة كطلقات مدفع رشاش: "صلوا بينا يا أخواني علي حضرة النبي.. معايا نص دستة أقلام فرنساوي وأشكال وألوان أزرق وأسود وأحمر ما تقولش عليها لعدوك. هدية للأولاد والحبايب بخمسة جنيه بس" ثم مكرراً: "نص دستة أقلام دي بخمسة جنيه قلتم إيه؟" ولما لم يصله رد أردف بسرعة: "طب بأربعة جنيه ونص ولا غلو السوق وطمع الخردواتية.. أربعة جنيه ونص يا بلاش.. هيه؟.. أربعة جنيه ونص دستة الأقلام الفرنساوي". استمر الصمت فاستأنف "طب بأربعة" وكأنما توقع عدم وصول رد عليه هذه المرة أيضاً أكمل بسرعة "طب بتلاتة ونص.. طب بتلاتة.. طب ع النوتة.. طب علي ما تفرج. إيه يا زباين أمال عايزين إيه؟.. طب سمعونا صلاة النبي". وأخيراً ختم البائع صيحاته اللا مجدية بعرض يعرف أنه سيصيب هوي سامعيه لا محالة: طب ح أقول لكم آخر كلام عندي ومالكوش عليه يمين البضاعة دي جاية عليه بخسارة. ولكن عشان الحبايب ح أبيعها لكم بتنين جنيه ونص بس. كأنما حركت العبارة الأخيرة الماء الراكد وكسرت حاجز الصمت في الموقف. تسابق الركاب علي الشراء منه. وفي كل مرة كان البائع يبيع نصف دستة الأقلام. كان يعلن عن ذلك مثيراً الحماس والرغبة في بقية الجالسين قائلاً: "وادي كمان نص دستة أقلام باتنين ونص" كان الركاب يبتسمون وهم يتسلمون الأقلام من البائع. ويسلمونه الجنيهين والنصف وكأنهم يشاهدون نمرة ظريفة في سيرك أو لعبة من ألعاب الهواة كان يقدمها البائع وهو يعرض عليهم سعراً لبضاعته. يخفضه حتي ينزل به إلي أقل درجة يرضي عنها المشتري. وعلق أحد الركاب علي ذلك وهو يضحك: "ما كان من الأول". ومن كرسي خلفي خرج صوت أجش لراكب آخر يقول: "أهو كل يوم ع الحال ده.. يفضل يشغل لنا الموال بتاعه إياه.. يبتديه من خمسة جنيه ويفضل ينزل في السعر. وكل مرة ما حدش يرضي يشتري منه غير بعد ما نفسه ينقطع من الكلام وبعدين في الآخر يضطر يبيع باتنين جنيه ونص. توالت تعليقات الركاب بينما كان البائع منهمكاً في جمع ما تبقي من بضاعته. وما حصله من بيعها بجنيهات قليلة غير عابئ بتعليقات الركاب. فقد كان يستعد للقفز من الأوتوبيس وفكره مركز في كيفية اللحاق بأوتوبيس آخر قبل انطلاقه ليعاود وباصرار لا يعرف التوقف أو الهدنة عرض مواله السابق علي ركب آخرين.