أتوبيس مصر.. يركبه كل الناس في مصر الأتوبيس الذي نركبه يهتز ويتمايل في عز نقحة القيالة وسط زحام ولا زحام يوم الحشر.. انطفأت إشارات المرور.. لم تعد صالحة لإرشاد الناس الذين شبعوا إرشادات وأوامر.. انطفأت ربما من شدة الحرارة أو من عبث عابث.. وربما من عبث الأقدار!. أسعدني زماني في ساعة نحس مستتر أن أركب حافلة من حافلات النقل العام التي تنوء وتئن من أكوام اللحم التي تنحشر فيها طوال ساعات النهار.. وكل ركابها من الصنف الذي شبع غلبا وهما وقهرا.. وأصبح لاحول له ولا قوة في زمان الغيلان والحيتان الذين يأكلونها والعة.. لا فرق بين من يجلس علي كرسي الإمارة, أو من يمسك بقلم الإمضاءات والقرارات, ومن يتبوأ منصب المسئول الكبير في الوزارات والمؤسسات.. وسكة أبوزيد كلها مسالك علي رأي خالتي بمبة في مسلسل الضياع حتي لو لم يكن لدينا مسلسل اسمه الضياع.. فنحن الغلابة كما قال لي موظف دخل في دائرة الفقر والعوز والحاجة منذ زمن ليس بالقصير آخر ضياع! ولما كنا في حالة صيام.. وفي حالة غليان أقصد غليان من الحر حتي لا يفهمنا أحد خطأ فنروح في سين وجيم في هذا الشهر الكريم.. فقد أقنعت نفسي مادمت قد ركبت هذا الأتوبيس.. أن أسلي نفسي بالاستماع لما يجري وما يقوله ركابه داخل هذا الأتوبيس الذي من المفروض أنه مكيف.. وإلا فلماذا ندفع ثمن تذكرته جنيها بحاله؟ قال راكب موجها كلامه للسائق.. والأخير في الحقيقة سائق وكمساري وكوماندا كمان.. يعني باشا هذا الصندوق المتحرك في قيظ القاهرة ولهيبها في أغسطس: والنبي يا أسطي تفتح لنا التكييف؟ ويرد السائق بشخطة: أنا موش أسطي قدامك.. بص كويس وامسح النظارة اللي انت لابسها قبل ما تتكلم! الراكب معتذرا: ياباشمهندس ما تحبكهاش.. انت علي عينا وراسنا بس شغل التكييف في الحر الموت ده! السائق بنفس لهجته المتغطرسة: ياسيدي التكييف عطلان.. أعمل إيه.. أنزل أشتري لك تكييف جديد.. واللا حتي مروحة أربع ريشة! الراكب: يا عم لا تشتري ولا تبيع.. خلينا كده نخر عرق لحد ما نوصل.. ده إذا وصلنا! السائق يلين لأول مرة: وأنا أعمل إيه بس أنا استلمت الأتوبيس كده! رجل عجوز من آخر مقعد: معلهش يابني هي الدنيا طارت.. طولوا بالكم علي بعض.. انتم في الآخر اخوات وأصحاب وأحباب! ............... ............... الحر لا يطاق.. والدنيا صيام.. والناس علي كف عفريت.. الواحد موش طايق حتي نفسه.. وبيقول ياشر اشتر.. حكولي بس علي مناخيري وأنا أوريكم أنتم مين وأنا مين.. علي حد كلام راكب ربعة لا تعرف طوله من عرضه يمسك بشماعة متدلية من سقف الأتوبيس ويتمايل معها يمنة ويسرة: يا عم يا سواق ما شوفتش مراتي؟ يضج الأتوبيس كله صغيره قبل كبيره في الضحك.. واحدة ست في حجم وشكل جوال القطن.. تلبس ملابس بلدية.. فستان أسود وطرحة من نفس اللون ترد بسخرية علي الرجل الربعة الذي يبحث عن زوجته داخل أتوبيس جهنم الحمراء الذي نركبه في يوم صيام قائظ.. بقولها: وحد يسيب مراته من إيده في الزحمة دي والحر ده يا اسمك إيه؟ ينفعل الرجل الربعة ويشخط في المرأة التي تدخلت فيما لايعنيها: وانتي مالك يا ست انت.. خليكي في حالك أحسن! نفس المرأة بمكر من في سنها وحالها: وإحنا مالنا صحيح.. أنا عارفة ليه الرجالة بيزعلوا لما تقولهم للوا بالكوا من مراتاتكم.. وهو إحنا غلطنا.. نكونش غلطنا وموش عارفين.. خللي بقي السواق يسيب الدريكسيون ويروح يدور لك علي مراتك في وسط الزحمة! الرجل الربعة بصوت أعلي: انتي فين يا محاسن. الله يخرب بيتك.. خليتي اللي يسوي واللي وما يسواش يتنأور عليا! عرفنا الآن أن زوجته اسمها محاسن.. تظهر محاسن بشحمها ولحمها أخيرا من آخر مقعد في الأتوبيس لتعلن عن نفسها بقولها: أنا أهوه يا أبوطويلة.. عرفنا الآن أن زوجها القصير المربع الجثمان اسمه أبوطويلة! يضج الأتوبيس كله في الضحك وسط غلب الناس وهمهم المتزايد من الحر والتهاب الأسعار وانحسار الوظائف الميري ونحافة المرتبات وضياع هيبة الجنيه المصري الذي تحول في هذا الزمان إلي مجرد عشرة قروش لا أكثر.. ويصيح راكب: أمال أما أنت يا قزعة اسمك أبوطويلة.. أمال أبوطويلة الحقيقي يسموه إيه.. النص! محاسن تتدخل لأول مرة: بطل انت وهو نقوره.. هو الراجل ناقص.. دا شايل فوق دماغه هم أربعة عيال وأمهم! ............... ............... فجأة ودون مقدمات صاح راكب من مقعده: بالذمة يا عالم في شرع مين بس.. كيلو اللحمة عند الجزار يوصل ستين جنيه.. وأنا ماهيتي في الشهر بتصفصف بعد الخصومات والضرائب والتأمينات والذي منه.. علي ربعميت جنيه.. يعني مرتبي في الشهر كله ما يجيبش سبعة كيلو لحمة.. بالذمة ده اسمه كلام.. واحد من الركاب: وعاملين حكومة ذكية.. ذكية مين وغبية مين.. الناس موش عارفة تعيش.. نوكل العيال إيه.. ونأكل إحنا إيه ونطبخ إيه في الشهر الكريم؟ راكب يلبس نظارة سوداء: عليك وعلي لحمة الجمعية! نفس الراكب الغلبان: وهي لحمة الجمعية رخيصة ماهي ب35 جنيه وماحدش عارف لحمة إيه بالضبط! راكب أروبة في وسط الأتوبيس: دول ضبطوا في اللحمة اللي جاية من الهند ديدان الساركوست.. أعوذ بالله! الست إياها التي فجرت الخناقة: ما تأكلوا فراخ؟ السائق نفسه يتدخل: وهي يعني الفراخ رخيصة.. والكيلو المجمد بتاعها وصل23 جنيه ولسه! واحد معجون بمية عفاريت كما يقولون: والنبي تسكتوا كده وتكفوا علي الخبر ماجور.. يعني لازم البني آدم عشان يعيش لازم يأكل لحمة وفراخ.. وماله الفول.. والمثل البلدي بيقول: تأكل فول تبقي زي الغول! واحد ابن بلد أراري: ما إحنا يا حضرة مزروعين في الفول ليل ونهار.. لحد ما بقينا زي البغال أهوه! واحد متغاظ ومفروس من الكلام والهلضمة اللي دايرة من حواليه في الأتوبيس: طيب حنفضل طول عمرنا نأكل فول وطعمية ونحلي بالكشري.. العيال موش حيأكلوا لحمة وفراخ طول عمرهم.. يكبروا إزاي ويعيشوا إزاي.. طيب وحنسد بقه الستات إزاي من غير ما يأكلوا إشي لحمة وإشي فراخ.. محمر ومشمر زي ما بيقولوا.. الست إياها تعود إلي الحوار: والنبي ومن نبي النبي نبي لو المضروب جوزي ماكفاش بيته وعياله وأنا لحمة وفراخ والذي منه طول الشهر.. أسيبه وأروح عند أمي طوالي! تزغدها في جنبها رفيقتها في رحلة الأتوبيس لا أحد يعرف هل هي قريبتها أم صديقتها.. أم مجرد جارة لها.. وهي تقول لها: والنبي تسكتي يا زينات.. وهي أمك يعني داقت اللحمة في حياتها إلا في الأعياد والمواسم! يضج الأتوبيس كله في موجة جديدة من الضحك البرئ والكل وأنا منهم نتصبب عرقا في حر أغسطس.. يهمس في أذني جاري وهو رجل تعدي الخمسين من عمره ويقول: تصدق بالله.. صنف اللحمة ما دخل بيتي من العيد الكبير.. أسأله: والعيال بيأكلوا إيه؟ قال: يأكلوا كرشة.. بمبار.. عدس.. فول بتقلية.. وأهي ماشية! ............... ............... الأتوبيس الذي نركبه يهتز ويتمايل في عز نقحة القيالة وسط زحام ولا زحام يوم الحشر.. انطفأت إشارات المرور.. لم تعد صالحة لإرشاد الناس الذين شبعوا إرشادات وأوامر.. انطفأت ربما من شدة الحرارة أو من عبث عابث.. وربما من عبث الأقدار! نحن كلنا داخل الأتوبيس نخبة عشوائية أو عينة من سائر صنوف البشر.. كأننا صورة مصغرة من مصر كلها.. بهمومها.. بفرحها.. بحزنها.. ما تعانيه وما تكابد.. وما سوف تعاني وتكابد.. لكنها كلها مغلفة بالقفشات.. بالضحكات.. بالتعليقات الغارقة في بحر من سخريات دنيا غادرة كثيرا.. وقادرة دائما.. ورحيمة أحيانا.. رفعت إيريالات أذاني إلي سقف الأتوبيس.. قال الموظف الذي حاله أغلب من الغلب لجاره في المقعد أمامي وأنا أسمعهما.. فكلنا داخل هذه الحافلة نسمع بعضنا بعضا دون خجل أو خشية لومة لائم: تصدق بالله يا مغاوري أنا الصبح سالف من مراتي اتنين جنيه عشان أركب الأتوبيس ده.. جنيه رايح وجنيه جاي وأخذتهم منها بطلوع الروح! قال مغاوري رفيقه في المقعد: ياه تستلف عشان تركب الأتوبيس.. أمال أما تقف قدام الجزار وتشتري لحمة تعمل إيه؟ قال ساخرا: أعمل سلفة من البنك! يضحك كل من سمعه من الركاب.. ويتطوع واحد منهم ضارباه الشمس بالتعليق قائلا: دلوقتي الموظفين اللي زي حالاتي بيحسبوا مرتباتهم موش بالجنيه.. لأ.. بكيلو اللحم إزاي؟ فلان بيه بياخذ في الشهر عشرة كيلو لحمة. يعني مرتبه600 جنيه.. وفلان موظف علي قد حاله بياخد ثلاثة كيلو في الشهر عشان مرتبه ما حصلش200 جنيه! يسأله واحد من الواقفين: وانت بسلامتك مرتبك كام كيلو لحمة بالصلاة علي النبي؟ يرد صاحبنا الذي ضربته الشمس فشقلبت كيانه: لا ياسيدي أنا ما حصلتش اللحم.. دنا بأخذ مرتبي كرشة وفشة وبمبار! الناس.. كل الناس المحشورين داخل هذا الصندوق الحديدي يضحكون وهم يضربون كفا علي كف ولسان حالهم يقول: عشنا وشفنا المرتبات بتتحسب باللحم موش بالجنيه! ................ ................ لا أعرف كيف فط ونط داخل الأتوبيس الذي تحول إلي علبة سردين بشرية.. كأنه نسناس بشري.. لم يكتف بقفزته البهلوانية التي تعود عليها ربما من أيام أتوبيس السنتو كروفت أول أتوبيس نزل إلي القاهرة في العشرينيات من القرن الماضي.. كان يحمل وهو يحشر نفسه وسط الزحام شنطة مفتوحة تفوح منها رائحة الدواء والعطور والبخور.. لم يكتف بالقفزة والزنقة بل اتبعهما بالصرخة: بص يا أفندي.. بص يابيه.. بص ياهانم.. عندنا الدوا الشافي المعافي.. لاتقوللي دكتور ولا حكيم ولا مستشفي خمس نجوم.. العجوز معانا حيبقي عريس في ليلة دخلته.. والراجل الكبير هيبرطع طول الليل في الشقة وهو بيقول محدش يحوشني.. محدش يمسكني.. والشاب ابن العشرين حيخش سبق الخيل يطلع البرنجي بعون الله.. ويدعي لحباية زغلول.. حباية واحدة ترجعك عشرين سنة لورا.. بس حد يقوللي تعالي يا بعرور.. تعالي يا مسرور.. تعالي يا شحرور.. أجي ومعايا الدوا السحري العجيب اللي نال كل القبول.. حباية زغلول! واحد ضارباه الشمس يعني متودك وداير كما يقول أولاد البلد من آخر الأتوبيس: يا عم حل عن نافوخنا.. قول معايا رغيف عيش نصدقك.. كيلو سكر بعد ما بقي الكيلو علنا وفي كل مكان بخمسة جنيه واللا كيلو أرز برضه قرب للحتة بخمسة.. نصدقك برضه.. نعمل إيه إحنا بحباية زغلول دي واللا بهلول! ينفعل صاحب البضاعة وينادي بأعلي صوته: انت فين يا واد يا مجانس؟ يشق زحام الخلق كأنه بارجة حربية تشق ماء المحيط.. عملاق يكاد رأسه يمسح سقف الأتوبيس وهو قادم إلينا.. ليستقر في النهاية أمام بائع حباية زغلول وهو يقول: انت بتنده يا شاطانوفي! ينظر إلي الركاب كأنه عثر علي كنز سيدنا سليمان وهو يقول: أهوه قدامكم..الميه تكدب الغطاس.. انت كنت إيه وبقيت إيه بعد ما أخدت حباية زغلول؟ يرد العملاق الأهطل في بلاهة: كنت راقد سطيحة في البيت بعد ما ركبتني أمراض الدنيا بحالها.. ميت بالحياة.. لحد أما الله يستره عمي شطانوفي اداني قزازة زغلول.. علي طول قمت من رقدتي ومشيت مشيتي وأديني قدامكم أهد حيطة وأبنيها من جديد! تمتد أيدي وأفواه الركاب السذج إلي شطانوفي: بكام العلبة؟ شطانوفي: بعشرة جنيه.. وعشان الشهر الكريم حبعها بثلاثة زكاة عن عافية السامعين, وإكراما للمصطفي صلي الله عليه وسلم حبعها بجنيه واحد.. مين قال هات.. مين قال تعالي يا شطانوفي؟ يقف الأتوبيس في محطة جامع عمرو بمصر عتيقة.. تصعد فتاة ذات ضفاير وعيون بغمازات.. معلنة بصوت عال: إلحقوا.. الحاج أمين الدرديري مرشح الحزب الوطني بإذن الله بيوزع شنط رمضان في الشادر اللي قدام شارع الشيخ المدبولي.. إلحق قبل ما يشطب وكله لوجه الله.. يسألها موظف مرتبه يادوب ثلاثة كيلو لحمة: وفيها إيه شنطة رمضان دي ياشاطرة؟ ترد ذات الضفائر: من خيرات الله.. سكر وزيت وعلبة سمنة ورز وفرخة وياميش رمضان بلح وزبيب وبندق ولوز وعين جمل وكمان لفة قمر الدين! صاح كل الركاب في السائق: استني يسترك يا باشمهندس! وفي ثوان خلا الأتوبيس من كل ركابه.. وبقي عمنا شطانوفي ومعه شنطة حباية زغلول.. والعبد لله! ............... ............... قلت في نفسي دون صوت: أجبر بخاطر شطانوفي الذي وقف مبلما لا ينطق بحرف وقلت له: اديني واحدة زغلول وآدي الجنيه! نظر إلي بامتنان وهو يدرك بحنكته أنني أجامله ليس إلا وقال: بس والنبي يا باشا بلاش تاخده.. أصلك باين عليك ابن حلال وطيب! وطيب هذه هي سر شقائي في حياتي كلها!{