كثيرا ما نحسد إخوتنا في الإنسانية. الذين يعيشون في الدول الغربية المتقدمة. علي ما ينعمون به من نتاج الحضارة المادية. ونتمني مستوي المعيشة الذي يرفلون فيه ومستوي الرعاية الصحية التي يتمتعون بها. نري كثيرا من أبناء الدول النامية. أو مواطني دول العالم الثالث. يتحرقون شوقا للهجرة إلي دول اوروبا وأمريكا وغيرها من الدول التي يحصل سكانها علي مستوي مرتفع من الدخل. لكن أكثر من يحسدون مواطني الدول الغربية علي ما هم فيه يتجاهلون أو يجهلون أن الغربيين مصابون بأوبئة وأمراض اجتماعية قد لا تقل خطورة وقسوة عما يعانيه سكان الدول المتخلفة من فقر أو مرض أو غيرهما! هناك وباء خطير تفشت فيروساته في المجتمعات الغربية ألا وهو الشعور بالوحدة أو بالعزلة الاجتماعية.. وهذا الوباء بلا شك نتيجة للتقدم المادي.. وسيطرة القيم المادية علي الحياة.. والصراع نحو تحقيق اكبر دخل ممكن حتي لو كان ذلك علي حساب حقوق ومكتسبات الآخرين بالإضافة إلي انعدام الترابط الاسري وتفسخ العلاقات الاجتماعية. وفي المجمعات الأوروبية لا تفرق حياة العزلة أو الشعور بالوحدة بين الشباب والشيوخ.. ربما تجد شابا غارقا في مستنقع تعاطي المخدرات وقد انفض أصدقاؤه وأقاربه من حوله ليواجه مصيره المجهول دون أن يهتم أحد منهم لأمره! أور بما تجد سيدة مسنة تعيش علي الشاي والخبز المحمص وتمضي حياتها وسط القاذروات ولا تستطيع تنظيف مسكنها القذر. وقد يقول قائل. إن مثل هذه النماذج موجودة في كثير من الدول الفقيرة. وهذا صحيح. لكن الفارق يكمن في حدة الوباء ومدي انتشاره. ففي الدول الفقيرة هناك ثراء عاطفي حتي لو تفشي الفقر المادي.. ولا وجه للمقارنة. فالمجتمعات الشرقية مازالت تحتفظ ببقية من ملامحها التي تغلب عليها الطيبة والتدين وصلة الرحم ومراعاة حقوق الجار. هنا تستطيع أن تري الأبناء أو أحدهم يتولي رعاية الوالدين. كما يمكنك رؤية الأسرة تهتم بابنها الذي وقع فريسة للإدمان وتسعي لعلاجه بشتي الطرق والوسائل. وربما تجد الجار يهرع لمساعدة جاره في أي ظرف من الظروف. ولا شك في أن الوضع يختلف نسبيا في المدن مقارنة بالقري. ومعروف أن الوحدة أو العزلة الاجتماعية لها آثار خطيرة. من النواحي العقلية والبدنية والعاطفية في الولاياتالمتحدة. مثلا. زادت نسبة البالغين الذين يعانون من الشعور بالوحدة إلي الضعف حيث وصلت إلي 40% حاليا بعد أن كانت 20% خلال فترة الثمانينيات. والأفراد الذين يعيشون حياة الوحدة أو العزلة الاجتماعية يعانون من اضطرابات النوم وضعف المناعة وكثرة الإصابة بالالتهابات وارتفاع مستوي هرمونات التوتر. كما يصبحون أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية والموت المبكر. كما تتسبب العزلة الاجتماعية في التعجيل بتدهور القوي العقلية لدي كبار السن وهذه الآثار تظهر مبكرا. فالأطفال المعزولون اجتماعيا تظهر عليهم بوادر ضعف الحالة الصحية خلال 20 عاما. والوحدة أو العزلة الاجتماعية تمثل مشكلة لأن الاعتراف بها وتقبلها يعني الاحساس بالفشل في أهم أساسيات الحياة كالانتماء والحب والقدرة علي التواصل مع الآخرين.. وهذه العزلة تجعل الفرد يكبح غرائزه الاساسية لحفظ ماء الوجه. كما تجعل من الصعب عليه طلب المساعدة من الاخرين. والمجتمع البريطاني يعاني كثيرا من آثار تفشي هذا الوباء. فقد وصل عدد من يعانون من العزلة الاجتماعية إلي حد الخطر ليتجاوز تسعة ملايين نسمة. وهذا ما دفع رئيسة الوزراء تيريزا ماي إلي تعيين وزير لمكافحة العزلة. ولمواجهة "الواقع المحزن للحياة المعاصرة". علي حد تعبيرها! نعم هناك من يعاني من العزلة أو الوحدة في الدول الفقيرة. لكن أعدادهم ليست بهذا الحجم!